لا مجال لتمويه الحقيقة، فصورة الدولة تشحب حتى تكاد تتلاشى، خصوصاً وقد بات لكل طائفة حرمها الخاص أو مياهها الإقليمية ، بل دولتها الخاصة داخل الدولة وعلى حساب الدولة.
يكفي أن تستمع إلى نشرات الأخبار، بالصوت الحي والصورة الملونة، حتى تكتشف كم اتسعت المساحة التي تشغلها المرجعيات الدينية في الحياة العامة، وكم بات صعباً الفصل بين القيادات السياسية وهذه المرجعيات التي يعكس تعاظم نفوذها تراجع السياسة، والأخطر ضمور الدولة بمؤسساتها جميعاً، تشريعية وتنفيذية وقضائية إلخ..
لقد نصبت الطوائف الأسلاك الشائكة أمام حقوقها في الدولة، فمن اقترب من الحدود المكهربة لهذه الحقوق صعقه التيار…
الطريف أن التواطؤ مطلق بين الطوائفيين جميعاً، ومن يرفع عقيرته في الدفاع عن حقوق طائفته أعطى الذريعة والتبرير للآخرين بأن يهبوا للذود عن مواقعهم حقوقهم، التي تجد تبريرها في الانتماء الطائفي والمذهبي لشاغليها وليس في كفاءة هؤلاء الذين يفترضون أنهم إنما خاضوا امتحانات ومباريات وفق شروط تفرض الشهادات العليا والخبرة وقوة الشخصية قبل التطرق إلى الانتماء الطائفي.
الأمثلة أكثر من أن تحصى، ولنبدأ من القمة: رئاسة الجمهورية.
عندما فرض التمديد للرئيس ثارت في البلاد عاصفة من الغضب شارك فيها سياسيون من مختلف الطوائف يتقدمهم المتنافسون المحتملون للرئاسة…
لكن الحملة حاولت وبعناد أن تفصل بين شخص الرئيس وبين طائفة من يشغل سدة الرئاسة.
.. فلما انفجر الغضب الشعبي ضد رئيس الجمهورية في الشارع، اثر جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، تدخلت المراجع الدينية العليا للطائفة المارونية لتحرِّم شعار إسقاط الرئيس، مقررة أن كرامة الرئاسة من كرامة الطائفة، ولا بد من الحرص على الكرامتين…
وأما الموقع السني الأول، رئاسة الحكومة، فقد حصّنته دماء رفيق الحريري، ثم جاءت الأكثرية النيابية بعد الانتخابات، لتزكيه وتحصر إرثه في تياره ومن يلوذ به، ممن كانوا رفاق درب، بالقصد أو بالمصادفة.
.. وعندما تبدّى في لحظة وكأن قيادات من الطوائف الأخرى يحاولون اختطاف القرار في تسمية رئيس المجلس النيابي، نزل الشيعة إلى الشارع ليؤكدوا: نحن وحدنا من يسمي، ولن نبدل المسمى..
… وعندما طرح القانون الخاص بتنظيم طائفة الموحدين الدروز كان على الجميع، من قيادات سياسية (غير درزية) ونواب وصولاً إلى الرؤساء، أن يترك الأمر لصاحب القرار (طالما تعذر وجود شركاء له) بوصفه المسؤول قبل الدولة وبعدها عن الطائفة… و دولتها داخل الدولة وعلى حساب الدولة، التي تحولت إلى مجرد ختم للمصادقة على قرار يتم على حسابها، كأي قرار تتخذه أية طائفة في ما يخص مرجعياتها وشؤونها الداخلية والقرارات الضامنة لحقوقها.
لكل طائفة قرارها المستقل … وإذا ما اضطرت إلى التحالف مع الآخرين فمرجعيتها وحدها تقرر مع من وضد من يكون التحالف لتضمن هذا الاستقلال في قرارها… ولها مطلق الحرية في أن تبدل التحالفات من دون أن يسائلها أحد لا من داخلها ولا من خارجها..
الأمثلة في يوميات اللبنانيين هذه الأيام أكثر من أن تحصى، وهي تشمل أخطر المواقع وأدناها..
فالرئيس الذي كانت المناداة بخلعه تصم الآذان ذات يوم، والذي ناله من التشويه والتحقير ما لم ينله أحد قبله، والذي طورد بالخطابات والرسوم الكاريكاتورية وشعار فل ، والذي امتنع كبار المسؤولين في الدولة (والسفراء المعتمدون لديه) عن زيارته، والذي أجبر على النزول من قصره إلى حيث قرر معارضوه عقد اجتماعات مجلس الوزراء (التي لا تصح من دون حضوره، دستورياً)، والذي اتهم بأنه الوديعة السورية وبأنه رمز النظام الأمني اللبناني السوري ، والذي كاد المتظاهرون يتسلقون الهضاب والتلال ليصلوا إليه في بعبدا فيخلعوه.
.. هذا الرئيس الذي صمد نتيجة عوامل كثيرة، سرعان ما وجد من يدافع عن رمزيته بوصفه ممثلاً لطائفته، ومن يعتبر أن عدم توجيه الدعوة إليه لحضور قمة الفرنكوفونية هو امتهان لكرامة الطائفة، خصوصاً وقد استبدل برئيس الحكومة.
على المستوى الأدنى فإن كل تعيين أو تكليف يثير أزمة، من محافظ بيروت إلى المدير العام لوزارة التربية (والتكليف هنا تطلّب زيارات عدة قام بها كبار المسؤولين إلى بكركي لتوضيح الطبيعة المؤقتة للقرار، والحرص على كرامة الطائفة في الموقع أو كرامة الموقع في الطائفة)… بينما التشكيلات الدبلوماسية مجمدة، وملء الشواغر في الإدارة، وهي عديدة، ينتظر نجاح المساومات الطائفية بل المذهبية (ولنا في مجلس القضاء الأعلى عبرة وعظة)..
إن لكل طائفة دولتها من الرئيس حتى الحاجب!
ولكل طائفة مواقعها في الإدارة العامة. لا تهم الكفاءة، أو الخبرة، أو حسن السلوك والسيرة.. فالطائفي، في نظر دولته يملك هذه جميعاً حتى لو كان سجله العدلي مثقلاً بالارتكابات… أما اختيار الأكثر كفاءة، ولو من الطائفة ذاتها، من خارج إرادة الزعيم فهي الحرب، فكيف إذا كان من طائفة دولة أخرى..
وإذا كان الصراع بين الطوائف يذهب بالدين جميعاً، فكيف يمكن استنقاذ هذه الدولة المتهالكة والتي يمنع سقوطها عدم الاتفاق على تقاسم تركتها بين دويلات الطوائف والمذاهب.
عاش لبنان!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان