ما نفع الكلمات؟ الدم ينطق، القتل سخي، الحياة العادية ممنوعة. لا تفاؤل في أفق أعمى. هناك جديد جديد: الإقامة بين الأنقاض. القتل بلا عقاب. إفراغ الأرض من أبنائها. حراسة الآلام والأوجاع بالرجاء.
أي لغة في زمن غزة؟ هناك جديد فاجر: حراسة القتل مهنة الحضارة الهمجية. تيمورلنك حيٌ يُرزق. جنكيز خان هنا وهناك. تيمورلنك يصول ويجول. أحسَّ هؤلاء بخجل. تفوّق عليهم جميعاً. غرب فاخرٌ جداً واستئصالي. غربٌ بجمال مؤلم.
مللت الكلمات. منعت دموعي. قلت كفى.. لا تبحث عن خلاص. هذه الأنقاض هي نحن. منذ قرون ونحن الضحية. لا نفعل سوى أن نُقلِّد وننسخ ما يقولون. لا وجود بعد لدول عربية؛ لأنظمة وطنية. نحن بلاد تُداس وتبوس أقدام الغزاة.
لا شبيه لـ”إسرائيل”؟
غلط. الغرب أسرلنا من سنوات شاهقة. من نسمي؟ بريطانيا العظمى. دولة إجرام وارتكاب وحضارة همجية، على مدى أكثر من 250 عاماً. تصوَّروا أن جزيرة مستقوية احتلت الهند الكبرى، ودشّنت فيها كرنفال المجاعات. الهند الخصبة كان سكانها يتسوَّلون خبزاً وقميصاً.. وابتسامات. البرنامج “الحضاري” الغربي، أقتل ولا تتعب. أسرق ولا تعترف. فليكن المال دينك الأبدي. ما ارتكبته بريطانيا في مستعمراتها المنتشرة في قاراتها يفوق بأرقام كوكبية، ما أقدمت عليه “إسرائيل”، الوليد الشرعي، لدول الاستعمار الغربي. “إسرائيل” هذه ليست صهيونية فقط، هي فرنسية وأميركية وتُمثل الغرب بمعظمه.
إنما، أتساءل بلؤم واضح: هل دولة الفاتيكان من عالم الروح أم هي ثكنة من ثكنات الغرب؟
ما نفع اللغة؟ أفضّل الاستماع إلى شتائم مهينة من أن أصغي إلى تصاريح دول وسياسات العار الإنساني المزمن. لن أتوب عن شتائمي وحركات أصابعي. هذه هو سلاحي. هذا هو غضبي. هذه هي مشاركتي الخرافية في “حرب الدول” على من يرغب بدويلة بحجم رغيف الخبز.
أقول لحالي: “أين الأديان”؟ في خبر كان. في أجندة الرأسمال. في كهوف الكذب. في خدمة الحكومات. في تجارة الإيمان. في رعاية الخطايا. في غفران الارتكاب. في خدمة القتلة.
تباً وألف شتيمة. “لقد حوّلتم الأديان السماوية إلى تصريف الممنوع ومحاربة المحروم. اصطفاف “ديني” مثالي، في معسكرات الظلم والنهب والقتل والسرقة والاستتباع. الدين الحقيقي محفوظ فقط في قلوب مشعة، في آيات الآلام وقداديس الوجع. إلهنا نحن ضد آلهتكم يا سارقي الديانات. جراح غزة وجراح المظلومين، وقتلى الحروب والسفك في هذا العالم، كلها في حصانة الإيمان بالإنسان؛ حصانة الفعل بدل الكلام والوعظ الكاذب والخطب الموسمية من على المنابر.
يكفي هذا، كي لا نقع في “الشرك” الجميل.
أما بعد؛
فلسطين، عاركم المقدّس. كل صامت مشارك في المذبحة. كل منسحب متهم وحقير. كل مبرر ومراوغ، هو سافل وأكثر. كل من ينتمي إلى عرب، فليخلع عنه سحنته التي تشبه العمالة، وليقفل فمه إقفالاً هرمياً. (بالإذن من مارون عبود).
فلسطين الصغيرة، هي العظمى بجدارة الدم. إنها ليست وحدها أبداً. الحكومات جبانة وكاذبة ومتآمرة. وهذا الدم المقدّس معلق برقابكم. الإعلام الغربي “الحضاري”، سافل ومجرم، يتمتع بكذب فاخر ومعتدٍ معاً. أقول: أيتها الحرية أنتِ جديرة بهذا الدم المسفوك. لا تلتفتي أبداً إلى بهائم السياسة في الغرب وفي البلاد المرهونة بالعروبة. حرامٌ أن تُكمَّ أفواه العرب، بالمال والطرد والسجن والتنكيل. أفدح ما قاموا به، أنهم باركوا الصمت، فروّضوا الخرس. توكَّلوا على التوحش الفني. “نحن نموت ونُدفن بلا قبور، وأنتم تُروّضون الناس على هذيان التصفيق”.
“لا يُلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم”. أليس هذا صحيحاً؟ أراض مكشرة عن فرحها السمج، في زمن سخاء الأحزان وهذيان الصمت.
أحياناً، أتفرغ للتفكير بصوت عالٍ. أقول: ما ثمن الآلام؟ القتل؟ الإبادة؟
أتساءل: أليس من الأفضل أن يكون النضال سلمياً؟ أرجح ذلك مرة وأنكره مراراً. يأتيني بيت شعر: “السيف أصدق أنباء من الكتب”. أقول ولكن الدم حرام وليس حلالاً. شهادتي ثقيلة الوطأة على أهل الحماسة: “رأيت شهداء يسيرون وحدهم على طريق تنتهي عند جورة تمتلئ شهداء، بجراحهم. رأيت أطفالاً، قيل لي أنهم أطفال، فيما هم أجساد مقطّعة. والأرض الرحم، تُداس بأقدام هاربين بسرعة إلى الله. كنت أظن أن الشهداء ماضون إلى وطن. قست المسافة بين دم مزمن، من مئة عام، وأزمنة الراهن، وجدت أن الجلجلة الفلسطينية يلزم أن تنتهي بقيامة. السيد المسيح قام بعد ثلاثة أيام. السيد الفلسطيني ما زال معلقاً وممسمراً ومباعاً، منذ مئة عام.. فمتى القيامة يا أيتها البشرية التي ليست بالمرة بشر، بل من حجر وعهر.
ينتابني غضب عبثي: أقول: لا نؤمن بلغتك. استعمل قدميك في التعبير: قل، أدوس بقدمي “حقوق الإنسان”. سأتلف كل الشعارات والمبادئ: الحرية مباعة ومحاصرة وملفّقة الأخلاق؟ أعوذ بالله. القيم: “قفا نبك”. الشعارات: “أولاد القحبة لا أستثني منكم أحدا”. الديموقراطية، سلعة مغشوشة. إنها دكتاتورية محمية بآلهة المال.
كيف أصدق القيم والأخلاق والمؤسسات الدولية المتغوِّلة؟ كيف يحصل ذلك والعالم يشاهد ويتحرك: في غزة الماء ممنوع. الدواء يا حرام.
الكتاب: “يا عارنا يا ذلّنا يا كل شيء ضدنا”.
الأشقاء العرب: مسموح هنا أن تفقع من الضحك.
الضمير العالمي: “حذاء قذر يدوس الإنسانية، والإنسانية هي ملك الضعفاء فقط”.
ماذا نقول، من دون تفجع ضروري، طبعاً؟ شهداء ينقلون إلى لا مثوى، إلى لا قبر، إلى أي مكان، على ظهر حمار. شكراً أيها الحمار النبيل. إننا مدينون لك بالعرفان. ماذا نقول عندما تقفل القبور فتحاتها. “لا مكان عندنا.. فعذراً”. يبحث الشهيد وأهله عن أي مكان. ثم تجد الأمكنة قد فاضت بشهدائها. ما يغري الشهيد أنه دُفن في وطن قيد الحياة، بجراحه ودمه.. ولو كانت الممالك والجمهوريات تصطف خلف القاتل. فليعرف الفلسطيني جيداً قاتله: إنها “إسرائيل” العظمى، رئيسة دول الجحافل العربية والغربية.
يقال: لكل إنسان وطنه. إلا الفلسطيني. لا وطن له.
ثم، ماذا نقول للأمهات والأطفال والعجائز. مساحة كف سموح هي غزة، ضاقت بشهدائها. السماء تعتب من الاستقبال. والعالم الحقيقي يهتف لفلسطين، إما بصداح وحناجر وصلت آذان الله، وإما بصمت مكتوم، في دول “الاستموال” العربي.
أحياناً، أبرّر بأسي. أقول: “هناك دائماً موت… موتنا أجمل من موتهم”. موتنا خالد، شاهق، منيع، مخلص، مؤلم. موتنا تاريخ لا تاريخ مثله. هو مجد التفاؤل وعبقرية الانتصار، بكلفة الحرية.
الفلسطيني لن ينقرض. يحيل الموت حياة. زمنه روزنامة أخرى. تبدأ، “في البدء كان الكلمة” (الإنجيل) و”حيّ على الفلاح” (آذان الدهر).
ثم.. يداهمني تفاؤل يعذبني.
علينا أن نحول الألم إلى تفاؤل. كيف؟ لا أعرف.
وأخيراً، ماذا نقول عن “إسرائيل العظمى”؟
أقول: لا بد من جنون.
– هل هذا النص خارج عن الموضوع؟
– طبعاً.