تكتسب صورة العراق، وخريطته أيضاً المزيد من الملامح الفلسطينية يوماً بعد يوم.. بمعنى أن دماء المقاومين وضحايا الاحتلال (الأميركي كما الإسرائيلي) تعيد رسم البلاد واحدة موحدة.
من البصرة إلى الموصل، ومن القائم إلى الحدود الإيرانية، ومن الرمادي إلى كركوك مروراً ببعقوبة والرهينة المقاومة، الفلوجة، يتبدى وجه العراق خلال هذه الأيام، متوهجاً بدم الشهادة، تماماً كما وجه فلسطين.
لم يعد الاحتلال هو العنصر »الموحِّد« بين الجهات والأعراق والأديان والمذاهب والإثنيات، بل تبدّى في صورته الحقيقية بوصفه مصدر الخطر الأكبر على وحدة العراق وشعبه، في حين أن »المقاومات« متعددة الهويات والانتماءات العقائدية والسياسية أكدت وبالدم وحدة الشعب ووحدة الأرض، في الحاضر وسعيها لضمان ثبات هذه الوحدة في المستقبل ومن أجل المستقبل.
وكما يخوض شعب فلسطين معركته وحيداً، معزولاً ومنسياً؟! عن الأنظمة العربية عموماً، فإن العراقيين يعلنون حضورهم للإمساك بقضية وطنهم، حتى والعزلة مفروضة عليهم، وأنظمة الجوار مشغولة بأمنها وبمستقبل سلطتها، كما الحال في السعودية، أكثر من انشغالها بالعراق ومصيره…
بل لعل بعض هذه الأنظمة يتمنى أن تشهد الأرض في العراق المزيد من الحرائق، بما يُشغل الاحتلال الأميركي عنها، خصوصاً أنها تلقت منه جزاء سنمار: فبعد كل الذي قدمته له من وسائل الدعم (القواعد الجوية، والتسهيلات لانطلاق قواته منها، والتعهّد بعدم رفع أسعار النفط)، جاء يحرّض شعبها عليها، ويطالبها بإصلاحات لا تطيقها، ويفرض عليها استبدال »الحكم الذي قام بالسيف« بنظام يقوم على الديموقراطية وصوت واحد للمواطن الواحد وسائر حقوق الإنسان…
وهذه الوقائع كلها كشف عنها الكتاب الجديد لبوب وودوورد بالاستناد إلى شهادات حية من كبار المسؤولين الأميركيين!
… وإذا كان السفاح شارون »يتجاوز« صديقه الحميم جورج بوش فيعود من لدنه ليجدد التهديد العلني باغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات (المنتخب ديموقراطياً)، ليتمكن من شطب فلسطين كقضية وإغراقها بدمها،
… فإن الحكام العسكريين للاحتلال الأميركي في العراق يحاصرون مدناً عراقية كاملة ويهددون بدكها على رؤوس مئات الألوف من مواطنيها، بمعزل عن قداستها التاريخية، إذ أن البشر يظلون أقدس من التاريخ..
أرييل شارون يتباهى بالاغتيالات المنظمة التي نفذها جيشه بأوامر صريحة منه، لم تستثن حتى العاجز جسدياً، ولم تميّز بين »السياسي« و»العسكري«… بل هو يذهب إلى أبعد من ذلك فيجهر بغرضه المباشر: إنه يريد تفتيت فلسطين وتنظيم حرب أهلية تهلك شعبها بما يحول الاحتلال إلى ملجأ بل إلى »مخلّص« حتى لو كان الثمن حلم الوطن والدولة!
إنه يرفض أن يرى فلسطين »وطناً« للفلسطينيين..
كذلك هو الأمر مع الاحتلال الأميركي في العراق، إذ ترفض قيادات الاحتلال، السياسية منها والعسكرية، أن ترى العراق وطناً للعراقيين.
إن شارون يتباهى بأنه قد ألغى »السلطة« ومؤسساتها في فلسطين،
ومثله بول بريمر يتباهى بأنه قد ألغى »دولة« العراق بجيشها وشرطتها ومؤسساتها وإداراتها، مما يسهل عليه أن يتعاطى مع شعبها وكأنه مجموعة من الطوائف والمذاهب والإثنيات يعطي الأكثر إخلاصاً لاحتلاله حق الفيتو على الدولة الواحدة الموحدة ونظام الحكم فيها، ويفرض العزل السياسي على من يصنفهم »أهل النظام المباد«، ويلوّح بمكافآت مجزية في السلطة لمن يراهم »عقلاء« و»مهادنين« فيعدهم بحصة أكبر في كعكة الحكم، ليخرجوا من دائرة المقاومة أو حتى الاعتراض إلى مشروع حرب مذهبية لا تبقي ولا تذر.
لكن »الأرض« قد أسقطت أوهام الاحتلال الأميركي… وإن كان الشق الإسرائيلي من أغراض هذا الاحتلال قد تحقق بالكامل: فقد زال العراق كقوة عسكرية عربية، وتبدى ممزقاً أيدي سبأ يحتاج إلى عون لا يجده عند أحد…
على أن الإسرائيليين ما زالوا يعبّرون من خوفهم من فشل المغامرة الأميركية. ففشل الأميركيين، في تقديرهم، سيفتح الباب لكارثة إقليمية عالمية شاملة.
* * *
إن واقعاً جديداً ينشأ في العراق، وهو بحاجة ماسة إلى حاضنة عربية، لكي يتكامل على الأرض مبشراً بتحولات خطيرة أكثر من يحتاجها هم العرب.
يوماً بعد يوم تتهاوى التوصيفات التي كانت تعطى للمناطق وللعمليات العسكرية التي تنفذ ضد جيوش الاحتلال في العراق: أسقط الدم خرافة »المثلث السني«، كما اسقطت حالات الاعتراض بالسلاح التي توالت في مختلف أنحاء العراق خرافة الانفصال بين »الشيعة« و»السنة«، وعاد الجميع عراقيين يواجهون احتلالاً يعاديهم جميعاً بقوة السلاح..
كذلك اسقط دم الشهداء خرافة اتهام المقاومين بأنهم »بن لادنيون« وبالتالي فهم ينتمون إلى »الإرهاب« لا إلى »المقاومة«،
بل لقد أعاد الدم المراق شيئاً من الاعتبار إلى القوى القومية في العراق، وبينها حزب البعث، فإذا بالأميركيين يرجعون عن التشهير بكل من انتمى ذات يوم إلى ذلك الحزب، ويباشرون »التدقيق« في السجلات ليعيدوا إلى السلطة »البعثي الطيب« مستبعدين »البعثي الشرير« وحده.
* * *
أين هذه الوقائع المكتوبة بدماء الشباب والشيوخ والأطفال والنساء في فلسطين كما في العراق من هموم القمة العربية العتيدة، التي ما يزال مصيرها معلقاً على مدى الاحتياج الأميركي إليها، ومدى قدرة المشاركين فيها على الالتزام بدفتر الشروط الأميركي الإسرائيلي؟!
هل لدى القمة العربية ما تقدمه لفلسطين غير المزيد من التنازلات التي تتواكب وتتكامل مع مجمل التطورات التي احدثها الاحتلال الإسرائيلي »على الأرض« فجعلت من »مبادرة بيروت« غير ذات شأن، كما اسقطت »خريطة الطريق« بكل ما تجمع فيها ولها من تأييد أميركي وأوروبي وعربي الخ.
وهل لدى القمة العربية ما تقدمه للعراق، في صورته الجديدة، حيث يتوهج الآن بدماء أبنائه من أقصاه إلى أقصاه، وحيث يتحول الاعتراض إلى مقاومة، ويتحول الاستنكاف عن المشاركة في سلطة تابعة إلى مطالبة صارمة بأن تكون للعراقيين كلمتهم الفصل في مستقبل دولتهم وطبيعة نظامها؟!
لن تكون أية دولة في العالم عربية أكثر من العرب،
وعبر التراجعات الخطيرة التي أقدم عليها القادة العرب فقد العالم بأكثرية دوله الثقة بهؤلاء الذين يهتمون بسلامتهم في الحاضر أكثر مما يهتمون بمصير بلادهم في الحاضر والمستقبل.
ولن تستطيع الأمم المتحدة مع مثل هذا الوضع المتهالك ان تجترح المعجزات في العراق، كما لم تستطع ان تجترحها في فلسطين، دون ان يعني هذا الكلام الانتقاص من كفاءة الدبلوماسي الأشهر والأبرع الأخضر الإبراهيمي.
* * *
ان »الأرض لا ترحل، ولا تذيبها قذائف دبابات المحتل«.
لكن أنظمة عربية كثيرة قد تسقط في العراق وبسببه، كما سقطت (ولسوف تسقط..) أنظمة عربية كثيرة في فلسطين وبسببها..
وبرغم ان أهل الأرض، سواء في فلسطين أو في العراق، ليسوا جاهزين، بعد، لمواجهة شاملة تنتهي بطرد المحتلين،
إلا ان جهادهم المبارك ودماءهم الغزيرة التي تسقي أرض فلسطين وأرض العراق ستصدع العروش جميعاً في المنطقة العربية..
ولعل مقدمات الزلازل ستظهر في القمة العتيدة، التي يخاف منها الداعي والمدعوون أكثر مما يخاف منها المحتلون!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان