طلال سلمان

قراءة أولى في عيني السر

فضحتنا عيناكِ! كشفت عجزنا عن القراءة.
ما أعمق المدى، ما اعظم المختزن في هاتين العينين الحائرتين المحيرتين المثقلتين بالمبهم.
تسبح الأسرار في الحدقتين الغامضتين، الناطقتين بتلك اللغة التي لا يفهمها أحد منا، نحن الذين ندّعي الفهم الخارق والتوغل في اعماق اللغات.
كل الأيام الآتية هنا، تتماوج، تكاد تناولنا عناوينها، لكن اليد أقصر من ان تطال، والأفكار تحوم من حولها وتعجز عن اختراقها، تتلاطم مع علامات الاستفهام على بابها المسحور ثم تتراجع، منهكة، مفتتة، وقد غاب عنها المعنى.
لكأنكِ تعرفين ما لا نعرف، اذ يلتمع أحياناً شيء من المكر في الحدقتين الداكنتين، او يترقرق طيف ابتسامة ساخرة من محاولاتنا الخائبة لأن نستعجل الآتي من خارج القدرة والإرادة.
لكأنك تعرفين ما لا تفقهين،
ونحن أدعياء المعرفة نتخبط ونتهاوى من على حواف اليقين.
لو أننا نعرف القراءة لملكنا المستقبل الذي تتقدمين نحوه من دوننا، بينما نبتعد عنه ويبتعد عنا بسرعة الخاطر.
لكم تختزنين منا وتختزلين!
ما أكبر حشدنا في نقطتي الضوء المظلل باللغز.
ولكنك، بلفتة واحدة، تتجاوزين حاصل جمعنا مندفعة الى الذروة: الى بداية التاريخ الجديد الذي لا نقرأه إلا فيك.

 

حوار الحيطان الناطقة

قال الجدار للجدار: فاز من »قائمتي« اثنان.
رد الجدار على الجدار: أظن انك اكثر منهما نفعاً للناس، وأظنهما كانا اكثر شهرة وبلاغة وهما معروضان على ظهرك!
* * *
قال الجدار للجدار: اكثر ما يزعجنا صمود »المنسحبين«. لماذا لا يرفعون صورهم مداراة للفضيحة؟
رد الجدار على الجدار: وهل يدفعون لك »مياومة«؟! مأساتنا اننا، نحن الحيطان، لا نستطيع الانسحاب!
* * *
قال الجدار للجدار: الحمد لله اننا لا نعرف بإخراجات قيودنا، وإلا لكانوا زوروا »عناويننا«.
رد الجدار على الجدار: والحمد لله ان ليس لنا »اصوات« وإلا لكانوا باعوا فينا واشتروا. لأول مرة أشعر بالرضى لأنني بلا »صوت«.
* * *
قال الجدار للجدار: هل هنأت أصحابك الذين تحمل؟
رد الجدار على الجدار: بل هم من عليهم واجب التهنئة، فلولانا لما فاز هؤلاء الذين ظلوا مغمورين حتى قدمناهم الى الناس.
* * *
قال الجدار للجدار: مر من أمامي ثلاثة ممن حملتهم على ظهري اكثر من شهر، فلم يلقِ اي منهم عليّ تحية الصباح.
رد الجدار على الجدار: لنا أسوة بالذين انتخبوهم، فهم لن يسمعوا منهم تحية طوال السنوات الأربع المقبلة.
* * *
قال الجدار للجدار: اكثر من يغيظني هؤلاء المتعهدون الذين قبضوا مالاً يوم ألصقوا على ظهرنا الصور، وها هم يقبضون مالاً لقاء نزع الصور عن ظهورنا. لقد أفادوا منا مرتين.
رد الجدار على الجدار: لم تعلمك الانتخابات شيئاً من السياسة. هؤلاء أقل من قبض، أتحسد الفقير على رغيفه وتنسى من يحبس الخبز عن الناس؟

 

هذيان »عبود« العربي بلكنة عدنان الصائغ

من الصعب ان تعرف عدنان الصائغ كله. انه نهر من العذابات والآلام والشوق الى القول والتشهي الى ان يسمعه الآخرون. ان لديه الكثير الكثير ليقوله، الكثير مما عاناه، وليس في عمره إلا المعاناة، والكثير مما قرأه، والكثير مما يسافر اليه بالرغبة او بالنفي.
و»نشيد اوروك« ليس إلا مدخلاً الى معرفة عدنان الصايغ بأحماله العراقية الثقيلة.
عدنان الصائغ هو »عبود« الذي يهذي حكاية الانسان العربي المكدود والمحدود بين اللقمة والطلقة.
و»عبود« العراقي في »نشيد اوروك« يمكن ان يقرأه أي عربي بلهجته، مبدلاً بعض الأسماء، محافظاً على الملامح والسمات جميعاً، فإذا »الهذيان المسعور« المنطلق كصرخة احتجاج، هو صوت كل واحد منهم حيثما كان على اتساع هذه الأرض النازفة بشرها وكرامتها، تاريخها بالماضي والحاضر والمستقبل.
أما »اوروك« فهي المدينة السومرية القائمة بقاياها بعد جنوبي شرقي بغداد، وعلى مسافة بسيطة شرقي مجرى الفرات الحالي، ويمر فيها شط النيل المندرس الذي كان مجرى الفرات القديم، وهي مسورة على هيئة شبه دائرة، ومنها عرفت اطوار حضارة وادي الرافدين وهي: مدينة كلكامش ورمز الإله ديموزي ومعبد الإلهة إيفانا.
وأما النشيد فأطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي، على الإطلاق، فإذا أضفت اليها هوامشها التي تزيد عليها طولاً، باتت أعمق صرخة وجع صدرت باسم ملايين المعذبين والمضطهدين والمحرومين من أوطانهم ومن حقوقهم فيها.
ليس »نشيد اوروك« شعراً بالضبط، وإن كان النفس الشعري يضبط ايقاع نصه الطويل، ولا هو رواية تماماً، وإن كانت معالم الرواية تطل من بين السطور ثم تحتجب.. وهنا مختارات عشوائية من بعض سطوره المثقلة بالمعاني والرموز:
»خسرنا البلاد
خسرنا الأغاني
ورحنا نجوب المنافي البعيدة
نستجدي العابرين
ولي في الرصافة نخل وأهل
ولكنهم ضيعوا في الهتافات صوت المغني
(وعبود يرنو لسوط المحقق.. وهو يلملم أقواله الذابلة)
ايها الذابل الآن
تحت غصون المكاتب
كم عبرت قلبك الغيمة القاحلة
وحيداً«.
……
… والجنرال بعزلته ضاحكاً من أناشيدنا الوطنية حين نعود من الحرب نسحل اشلاءنا والأرامل مُعوِلة في الخيام فأين نساؤك يا سعد؟
منشغلات بجمع الغنائم لا أيّم بينهن تنوح
فما تنفع الفتوح
ولا شجر تحته تستريح
ولا وطن او ضريح
أنحيا الحياة قتيلاً يجر قتيلا
أم نكتفي بالقليل من العمر
……..
آه يا وطني
أكل بلد تسوق أبناءها للحروب العقيمة تدعى وطن؟
أكل مجنزرة حرثت حقل أحلامنا في السواتر تدعى وطن
أكل فتاة نسينا طفولتنا في ضفائرها
نسيت قلبها في سرير المقاول، تدعى وطن
أكل جدار نزفنا عليه الشعارات، يسبقنا في الهتافات نحو البنوك
ونسبقه في المجاعات نحو المخافر.. يدعى وطن؟
…….
كل شيء بدد
وما نحن إلا خيول سباق الأبد
فلماذا ولدنا وفي عنقنا حبل مشنقة
تؤرجحنا الريح ذات المنافي
وذات البلد؟!
…….
كم ساعتك الآن؟!
منتصف الموت ببغداد

 

يمدان ظلنا فوق الكون

مثل نجمتين..
مثل جناحين للشوق يرفان فيعطران الهواء وينعشان انسانيتنا المهددة بالزحف الخطير لنمل التفاهة والعبثية والعدم.
مثل معينين للأمل، يمدان ظلنا فوق المدى الكوني فيحفظان الاعتبار لقيمة السهر والجهد والإيمان والدور.
مثل نجمتين..
تشعان حباً فتنبض قلوبنا ولا يتأكلها صدأ الجفاف.
حبي بعيد. إنه في بطن العين.

 

من أقوال »نسمة«

قال لي »نسمة« الذي لا يعرف له مهنة غير الحب:
لا تضع حبك مقابل كبريائك، ولا تعرض من تحب لامتحان مفتوح، فالشك يقرض الحب ويذهب به.
وقال لي »نسمة«، بعدما فرغ من قراءة قصيدة جديدة:
كل يوم آخذ حبيبي الى النزهة. في الشعر يسكن حبيبي، فإذا أخرجته منه تاه وتهت عنه.
وقال لي »نسمة« وهو يبتعد عائداً إلى ديوانه:
في الطيب حبيبك، في الجمال حبيبك، في الهدأة حبيبك، في الشعر حبيبك، وفي العادي من أمور الحياة الناس جميعاً.. فاحفظ حبيبك خارج الظن وخارج الآخرين.

 

خليل الخوري والموت الأبكم

في أواخر الستينيات، ومع احتدام الصراعات العقائدية السياسية العسكرية بين أجنحة حزب البعث، وانقساماته التي بعثرت جمهرة من مناضليه على المقاهي والمنافي والتقاعد المبكر و»المهن« التي لم يستعدوا لها، جاء الشاعر خليل الخوري إلى بيروت واستقر على أحد »أرصفتها« الثقافية.
كان »المتحزب« فيه شخصية حادة تكاد تغلب على الشاعر.
وكان أصدقاؤه يعجبون لقدرته على الجمع بين شفافية خياله المبدع وبين فظاظة المتعصب لآرائه الى حد القطيعة مع الآخرين.
وتاه خليل خوري في خضم الصراعات فانتهى به الأمر في بغداد الحكم.. وهو حكم استقبل فيه تعصبه على حساب إبداعه. وظل خليل الخوري يشرب حتى أودى به الشراب، والقنوط، ويباس التشرد، والفجيعة برهاناته الخاطئة!
قبل يومين، عرفت بيروت بموت خليل الخوري.
الشاعر كان قد انطفأ من زمان، أما الإنسان المعذب نفسه والمعذّب غيره فقد رحل داخل شرنقته المغلقة عليه الى العالم الآخر.
يذكر الشاعر رياض فاخوري، بالتأكيد، تلك »السهرة« على شرفة بيته الجميل في بيت شباب البديعة.
كان هناك خليل الخوري، وكان معنا زميلنا الكبير مصطفى الحسيني، وزوجات المتزوجين منا.
دار الحديث ندياً حول موضوعات عدة، أبرزها الشعر.
وكان لا بد من المرور بالسياسة، فاستفاقت »سورية« خيل الخوري متخذة طابعاً »عنصرياً« مستفزاً ليس فقط »لمصرية« مصطفى الحسيني، بل لعروبتنا جميعاً.
وحاولنا تهدئة الجو عبثاً، فأكمل خليل الخوري تشهيره بمصر والمصريين، فإذا بمصطفى الحسيني يصبح فوق الطاولة ممسكاً بعنق الشاعر »العنصري«، وإذا بنا نجتهد جميعاً في فضّ الاشتباك فلا ننجح إلا بعد جهد جهيد.
وكانت »الكأس« هي العذر، ومع الكأس مرارة الخيبة والإحساس الممض بالعجز عن إثبات الذات.
بعد بعض الوقت، استطاع رياض فاخوري بإيناسه ورقة طبعه أن يبدل الجو تماماً، وأن ينظم مباراة في قراءة الشعر بين الموجودين.
ورق هواء السَحَر.
وتدفق خليل الخوري منشداً شعره المثقل بأحزان الهجر، فإذا بمصطفى الحسيني الذي كنا نسميه »الجبار« يقوم إليه معتذراً، وناصحاً:
لا تتكلم بعد اليوم في السياسة، قل شعراً فيحبك كل الناس.
رحم الله خليل الخوري الذي مات ألف مرة آخرها ميتته البكماء في بغداد، قبل أيام.

 

Exit mobile version