في عام واحد، تودع مدينة شمسطار البقاعية ثلاثة من أعلامها الكبار في ميادين الفكر والسياسة والإعلام والأدب والتشريع على مستوى الأمة والوطن.
الرئيس حسين الحسيني “خازن كنوز” الطائف، والمتحسّر على ضياعها أو سرقتها عنوة من بين يديه وأمام ناظريه. الدكتور شبيب دياب رئيس رابطة قدامى أساتذة الجامعة اللبنانية؛ المناضل منذ الطفولة والباحث المتميز والأكاديمي الرصين والنقابي الدؤوب، الذي توفي على كرسيه وهو يرأس مؤتمراً عربياً في لبنان لصيانة حقوق المتقاعدين في الوطن العربي. أما راحلنا الكبير الأستاذ طلال سلمان والذي بغزارة إنتاجه وسخاء عطائه الدائم، فهو زيتونة الإنتماء القومي التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، يستظلها طلاب الحوار والهاربون من هجير بلدانهم إلى واحة الفكر والإبداع، ويتلذذون بثمرها كزيتون المائدة لا يُستغنى عنه لا صبحاً ولا ظهراً ولا مساء.
***
يُقال إن طلال سلمان صنع نفسه في مختبر الفقر يوم كان طفلاً، ويتوقف القائلون عن الكلام عنه عند هذا الحد أحياناً. ألا ليتهم يُضيفون أن طلالاً في مختبر الفقر والإرادة والوعي كان يصنع في أروقة “السفير” أجيالاً وأفواجاً من حملة الأقلام. ربّاهم ورعاهم ودرّبهم وحفّزهم وتابعهم حتى يبزغ فجرهم، وحتى إذا اطمأن إلى إنجازه الليلي واطمأن إلى طلوع الفجر وبزوغ الضوء ووضوح الصورة، ذهب لينام مرتاح البال. وفي نومه القلق على مستقبل الأمة كان طلال رفيق الصباحات لكل قارىء لـ”السفير”، حيث تتعازم القهوة والسيجارة – وهما ربما، إضافةً للكتابة متعته الأساس – ليُقدّم كل منهما أمتع وأذوق ما عنده للآخر، في تكامل الرشفة والمجة، في عهد دائم على اللا انفصال. قاتل الله التدخين وأضراره.
طلال سلمان الخارج من عمق المجتمع العربي، المتواجد في آن واحد في كل حدوده وأطرافه والحوافي، كان يريد أن يقبض ريح العروبة “ليستدرجها” إلى لبنان لتقيم فيه مدى الدهر، وليبثّ بهذا الوطن العزيز روحها النبيلة، ومن هنا يأخذهُا بيدهِ الحانية إلى الحدود مع فلسطين، قائلاً لها هنا الهوية الحقيقية.
***
مع غياب (أبو أحمد) وهذه الخسارة البائنة، لا يخامرنا شك أن مدينة شمسطار ولاّدة المبدعين ومرضعة للناشئين على الدوام.
طلال سلمان الذين أعلنت وفاته، قبل أربعة أيام، مات قبل ذلك بوقت طويل.
مات طلال سلمان يوم جُوِّعَ الناس وعجزوا عن شراء “السفير” ففقدوا حنان لمسة صفحاتها. مات يوم اصفرّ لون الجرائد واختفى الورق لصالح الانترنيت، ومات يوم أصبحت الكلمة مدفوعة الأجر ويوم صُنّعَت وعُلّبَت في معامل السلطات. مات يوم جفّتْ شرايين الليطاني وطغى طعم المبيدات المرشوشة على طعم الخضار والفاكهة، ويوم فقد المجتمع روحهُ الأصيلة حين غزانا الفن الهابط وانحسرت العتابا والميجانا والدلعونا والدبكة والمنجيرة.
***
بمناسبة تكريمنا له مؤخراً كعضو مجلس أمناء المنتدى القومي العربي، كان صوته خافتاً حتى كدنا نشعر أنه لا يتكلم. كنا مُخطئين. كان يتكلم ونحن لا نسمع. كان يُحذّر من سموم الإعلام الموجه إلى عقول الناشئة، ويُحذّر من الإرتهان للفَسَقَة وتجار الهيكل، قائلاً لأتباعهم الغلابى والجوعى: يكمنُ خلاصكم في الكفّ عن الهتاف والدعوة لهم بطول العمر ودوام الصحة والتعهد بالانقياد لهم إلى أبد الأبدين.
***
في يوم وداع “أبو أحمد” إذا طرقتَ باب أحد البيوت في البقاع، فلن يُجٍبك أحد، لأنهم زحفوا إلى مدينة شمسطار لوداع من كان حاضراً بينهم بالفعل، جسداً وروحاً وفكراً وتطلعاً إلى غدٍ أفضل.
قلتُ إن طلالاً مات يوم ماتت الكلمة، لكن في وداعه المميز والحاشد والمُعبّر، هربت الكلمة النازفة من أسرها، متحاملة على جروحها تعلن قيامتها من جديد.
في يوم وداع طلال سلمان، الكلمة قامت حقاً قامت. مات طلال سلمان عاش طلال سلمان.
نشرت في موقع 180 بوست