هل كان فرانسيس فوكوياما مصيباً في “نهاية التاريخ”؟ هل الآتي كابوس وهل انهيار الغرب قريب؟ أهي السلطة آيلة إلى زوال أم إلى تأليه؟ هل نهاية الإنسان بشارة متشائمة؟ هل الفوضى عقيدة الرأسمال؟
أسئلة بلا أجوبة. العالم دخل النفق البلا نهاية. الحرية لم تعد شعاراً. صارت عبئاً. القضاء عليها يتولاه الأقوى. الأقوياء ليسوا أصحاب رسالات بل دفاتر شيكات وأحجيات البورصة.
الذين وعدوا شعوبهم بالديموقراطية، فليعتذروا. لا تقبل آلهة الرأسماليات الأخطبوطية أي مزاح. الأمر لي: هو انجيل المال وملائكته وشياطينه أيضاً. الليبرالية اسم على غير مسمى. البشرية تنوء بأثقال مزمنة. لا راحة لشعب، أياً كان، لأن العدالة كذبة. الحق دائماً مع الأقوياء.
هل انتهت الأيديولوجيات؟ الجواب طبعاً. تاريخ الأفكار والمعتقدات انتهى. الطوباوية آفة. البعض يعترف بأن الأخلاق سلعة غير قابلة للبيع. البعض يعتبر أن الله مات. المال ورث الله وطرده من نص الحياة. الأديان، بعدما خاضت الدماء، تحولت إلى ثكنات وخنادق ومصارف وتجارة وكل ما هبّ ودبّ من الممنوعات.
التفاؤل ضئيل جداً. اليأس ساري المفعول. الخلاص متعذر. الاستقامة رهان هزيل. كل الطرقات مفتوحة، لكل ما هو بضاعة غير إنسانية.
غريبٌ. الغرب رفع لواء الحرية والديموقراطية والإنسانية. غريبٌ أكثر. الغرب علمنا معنى العلمانية، وفصل الدين عن الدولة. دسّ في نضالنا ايديولوجيات راقية: القومية، الاشتراكية، الشيوعية، الحرية، المحاسبة، الإنسانية، حقوق الانسان، العدالة الدولية، العدالة الاجتماعية إلخ…
الكُتّاب والمفكرون والفلاسفة، مسؤولون عن الحبر الذي سكبوه في أقلامهم. ففيما كانوا يلهجون بالحرية والإنسانية والديموقراطية والتنمية، كانت حكوماتهم وبرلماناتهم، تتبنى علناً سياسات استعمارية. الحرية فرنسية فقط في فرنسا. الحرية جريمة يُعاقب عليها المستعمر في الجزائر. نفاق شاهق.
كذابون. محتالون. سماسرة. مجرمون. قتلة. وفيما هم يُشهرون العدالة والحرية الإنسانية، كانوا يلوّثون الصين بالأفيون. يصادرون اقتصاد الهند. يطاردون مثقفيهم وشعراءهم وجموعهم الزاحفة من أجل لقمة أو خوفاً من موت بسبب الجوع.
الغرب الديموقراطي “جداً”، يكون خارج حدوده، متوحشاً؛ يدوس الأخلاق والشرائع والحقوق. الأيديولوجيا الغربية الحقيقية، هي أيديولوجيا التوحش لا غير. ماذا فعلت فرنسا عندما دخلت لبنان وقاومها الشعب في الجنوب؟ اقتادوهم كشيعة معترضين، إلى الكنائس ومارسوا ضدهم الإهانات والتعذيب.
تسألون من أين جاءت الطائفية؟ من الغرب “يا هو يا ناس يا عالم”.
بريطانيا العظمى، مسؤولة عن افقار وإذلال ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. سلبوا. عذبوا. قتلوا. شرعنوا التراتبية. نعم، الناس ليسوا سواسية. هناك فارق كبير بين انسان مسيحي وغربي من جهة، وانسان من سلالة الهمج من جهة أخرى. المهاتما غاندي تعرض لاهانات وقبضات والكثير من الاساءات.
من أطلق عبارة “الانحطاط العربي”؟ ليس نحن. كُتّابنا ومفكّرونا، منذ القرن التاسع عشر بدأوا عملية بناء حضارية. ممنوع. التنوير العقلاني غير مرغوب فيه. الطاعة كنز لا يفنى. الاستبداد عنوانه اذلال الشعب. “نحن همج”.
كان الغرب قد شهد فلسفة التنوير. عرف ديكارت، هيغل، كانط، روسو، نيتشيه وقافلة كبيرة من الفلاسفة والمفكرين. لكنه منعهم عنّا. صدّر إلينا العلمانية، بعد طرد الكنيسة من السياسة. رفعنا الشعار ومُنِعنا من بلوغه. الغرب يريدنا أحراراً، بشرط اقتصار حدود حريتنا عند الحرية الإقتصادية واقتصاد السوق. هذه الحرية وحدها تكون بلا حدود، و”الانسان الاقتصادي” هو الانسان الذي يستحق الاهتمام.
الانسان الآخر، الحر، التقدمي، الواعي، المنتمي إلخ… هو ضحية الحرية الاقتصادية والاجتياح الرأسمالي، بتقنيات حديثة، قضت على الحرفية في العالم الثالث.
ثم رُفعت راية الحداثة. رُفعت راية الحرية. رُسِمت لنا طرق التقدم. ادّعت أنسنة الوجود. علّمتنا غصباً عنا، ماذا تعني الديموقراطية المقيدة. حرّضتنا على البرلمانية. اقنعتنا بالتمثيلية السياسية، ونشطت جداً في مكافأتنا بتبني الطوائف والعائلات المالكة عربياً.
كذب. دجل. ادعاء. خبث. ماكيافيلية داعرة. كل دول الغرب انفتحت على عرب موغل بالتخلف. وارث لأرومات وممالك طغيانية. الخليج منبع لا ينضب. لا سياسة تدعو إلى الحرية والعدالة. السياسة الوحيدة، هي سياسة ربط مساحات الخليج، بشهية الغرب.
من أقوى؟ الدين أم النفط؟
ولو!!!
الجواب: النفط أولاً، والله أخيراً وما بينهما تقليد سلالي. الغرب مطمئن جداً خليجياً، مطمئن إلى حكومات ديكتاتورية. نتذكر كيف حضرت وزيرة الخارجية الفرنسية لدعم زين العابدين بن علي في تونس. الغرب، لا يُؤمن بالجماهير العربية. يخاف منها. يتدخل لشنّ حرب على نظام. ليبيا ضحية القذافي؟ لم لا. تدمير ليبيا، عمل غربي اجرامي. مصر، برعاية دينية. غير مسموح. دين مصر راهناً، تلاوة أوامر الغرب وحفظ آياته، وقطع كل علاقة مع الحرية.
سوريا، دُمّرت وما تزال تُدمّر. لم يكن ما حصل حرباً على النظام، بل كانت حرباً لتوزيع الساحات على الإمارات والحكومات المطيعة للغرب. أمّا العراق… أمّا السودان… أمّا اليمن… أما..
لبنان له نكهة سياسية خاصة. وصل إلى النهاية، كما هو مرسوم له ومعمول به. والغريب، انه انتهى كدولة، ولكن زعاماته تتصرف وكأنها في سويسرا.
قيل عن لبنان إنه سويسرا الشرق!
إن السائد راهناً، هو الصمت والعنف. السياسة ممنوعة. وحده الإملاء سيد القرارات. إنه لأمر مخجل وقذر جداً، أن لا نَشبه رواد النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين.
روح التمرد انطفأت. العنف دين الدولة العربية. الكتمان كنز لا يفنى. حماية الشرخ السني/ الشيعي، من كل محاولة تقارب. التكاذب ممكن ولكن بصعوبة. وإلا كيف نفسر الصمت السني راهناً؟ الجواب معروف إلى آخره.
من الممنوعات راهناً، ممنوع التعامل مع الناس على أنهم انسانيون.. الانسان ممنوع. الخادم مطيع. المهندس مطيع. التوحش الرأسمالي دين مصان من كل المذاهب والديانات. نحن نعيش بطريقة واطية. لا نعيش كالآخرين. الخوف أوكسيجين البقاء في الوظائف، والتعامل والـ… من المحيط إلى الخليج. هذه ليست حياة. هذا عيش فقط. الأحلام ممنوعة أو مكتومة.
إنها مرحلة الانحطاط. السياسات وباء. الجغرافيا مساحة ريعية. تخريب الانسان قد حصل. لم يعد العربي يبحث عن انسانيته. تقلّصت. الكبت فضيلة. الإفصاح مخاطرة.. “الأمة العربية سجن كبير”.
ما الصفة التي تطلق على الانسان العربي؟
إنه زمن المذلولين.
أختم هذا الفصل الكئيب بما قاله الكواكبي:
“المستبد إنسان. والإنسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب. المستبد يود أن تكون رعيته كالغنم ذُلاً وطاعةً، وكالكلاب تذللاً وتملقاً”.
كلما قرأت الكواكبي، رأيت فيه نبذة نبوة سياسية معاصرة.
ضوءٌ واحدٌ يُرجع حاضرنا. الدم الفلسطيني هو الذي يكتب نصاً جديداً ويتنبأ بعصر جديد.
دمنا ضوؤنا.. فلتخرس الكلمات.