هي فكرة طيبة أن نحوّل مصادفة التزامن بين مرور شهرين على اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ومرور ثلاثين سنة على انفجار الحرب الأهلية في لبنان إلى مناسبة وطنية للتوحد حول شعارات الحرية والسيادة والاستقلال، مع التوكيد على صيانة وحدة شعبه وتطوير نظامه السياسي بالتزام اتفاق الطائف الذي نحب أن نفترض أنه يصلح منطلقاً لخروج اللبنانيين من الحلقة الجهنمية للانقسام حول الهوية والدور والتساوي بينهم في الحقوق والواجبات.
فرفيق الحريري، في بعض وجوهه، هو شهيد اتفاق الطائف بكل ما يرمز إليه.
ولسوف »يحتفل« لبنان بعد غد، الأربعاء الواقع فيه 13 نيسان 2005، بالذكرى الثلاثين لتلك الحرب المذبحة، التي سقط فيها أكثر من مئتي ألف قتيل (حتى لا ننسى الفلسطينيين بمن فيهم شهداء الاجتياح الإسرائيلي عموماً وشهداء صبرا وشاتيلا خصوصاً!) وأكثر من ضعفهم من المخطوفين والمفقودين والجرحى، وخلفت دماراً عظيماً في النفوس وفي الآمال وفي الشعارات والعقائد.. فضلاً عما أصاب القضية الفلسطينية من أضرار غير محددة، وعما أصاب العلاقات العربية العربية من اعتلال واختلال واضطراب لعل بعض آثاره باقية حتى اليوم.
ولا يكتمل هذا »الاحتفال« إذا نحن أسقطنا من الذاكرة موعدين نيسانيين آخرين: يقع الأول في 23 نيسان 1969، تاريخ الصدام (الوطني) الأول من حول المقاومة الفلسطينية، ويقع الثاني في العاشر من نيسان، تاريخ توغل الكوماندوس الإسرائيلي في قلب بيروت ونجاحه في اغتيال ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية وهم أبو يوسف النجار وكمال عدوان والشاعر كمال ناصر..
(يمكن، على الهامش، استذكار موعد نيساني آخر استجد قبل عامين فقط حين نجح الاحتلال الأميركي في اجتياح العراق ونصب نفسه وريثاً لصدام حسين، وذلك حديث آخر..).
نستذكر هذه الوقائع التي تحتل صفحات من ذاكرتنا ولعلها توجه بعض مواقفنا، لكي نتنبه وننبه إلى أن غرق اللبنانيين في محلياتهم بعد فاجعة اغتيال رفيق الحريري قد دفعهم إلى شيء من الزهو الشوفيني الذي طالما أخذهم إلى التوهم بأن لبنان هو مركز الكون، وأنه بالتالي منطلق السياسات الدولية جميعاً.
فمن خلال استثارة غريزة الثأر، عاد إلى المسرح السياسي كل الخصوم الحقيقيين لنهج رفيق الحريري، وقد تسلحوا بصورته وهم ينادون بالشعارات المضادة لكل ما عمل من أجله، ولعله استشهد من أجله أيضاً..
أوليس رفيق الحريري شهيد العروبة في لبنان؟!
ألم يخسر العرب باستشهاده »رجلهم الدولي«؟
بذريعة الحرب على »الوجود السوري« الذي تحول إلى »احتلال« على لسان أبرز المستفيدين منه والمتنعمين بما أتاحه وأباحه لهم من خيرات، كاد »التدويل« يصوّر كإنجاز وطني فريد، وكاد القرار 1559 يصبح معادلاً للحرية والسيادة والاستقلال… فضلاً عن الديموقراطية!
وفي ظل الفراغ المطلق في رأس السلطة في لبنان، وفي ظل تعثرها الذي يندرج في سياق »كاد المريب أن يقول خذوني«، وكذلك في ظل الارتباك السوري الذي بلغ ذروته في مواجهة الغضبة الشعبية العارمة التي تفجرت نتيجة اغتيال الرئيس الشهيد في وضح النهار، صار ممكناً تصوير الإدارة الأميركية وكأنها وكيلة عموم اللبنانيين في طلب »الحقيقة«، والحَكَم الصالح للبت في الجريمة وتحديد المخططين والمنفذين، في حين احتلت فرنسا المُغضبة، لأسباب أخرى، دور النيابة العامة، على غرار من عندنا في لبنان!
اختفت بل أخفيت الأغراض ومصالح الدول الأجنبية، وخوطب الغرور اللبناني بتصوير مجلس الأمن وكأن لا همّ له ولا واجب يتقدم على مهمة »تحرير لبنان« وإعادة السيادة إليه غير منقوصة، ومساعدته على استعادة ديموقراطيته المفقودة بإجراء الانتخابات… على أساس قانون 1960، تدليلاً على أخذ اللبنانيين بأسباب التقدم وتحررهم من أمراض انقسامهم الطائفي والمذهبي!!
ولقد وقعت محاولة جديدة لاغتيال رفيق الحريري من خلال تصوير الإدارة الأميركية وكأنها أقرب إليه من أهله العرب.
أين رفيق الحريري من هذا كله، وهو الذي ولد قومياً عربياً وعاش قومياً عربياً، واستشهد وهو على إيمانه بعروبته… وهو الذي ناضل طويلاً من أجل »حل عربي« للمسألة اللبنانية، وساهم في التحضير لاتفاق الطائف ثم في صياغته وفي التبشير به أساساً لتسوية وطنية، وقاعدة لتوازن في السلطة يتجاوز الأكثرية والأقليات ليؤكد حرص الأمة على مكوناتها جميعاً، بمعزل عن انتماءاتهم الدينية (والعرقية) بما يشكل ضمانة لهويته العربية ولوحدة مصيره مع أخوانه العرب الأقرب فالقريب..
وإذا كان من السهل على اللبنانيين رمي أخطائهم وخطاياهم جميعاً على كاهل الوجود السوري، بما في ذلك اغتيال رفيق الحريري، فإن الكثير من قياداتهم السياسية المستجدة أو الطارئة أو العائدة من وهدة الانحراف حتى حدود التفريط بالتراب الوطني، نسوا أن الاغتيال بحد ذاته »حدث عربي« وجريمة ضد العرب والعروبة في الدرجة الأولى…
ومن شأن هذا التبسيط الانتصاري والثأري لاغتيال الحريري أن يخرج لبنان من عروبته بحجة »النكاية« بسوريا، وأن يسامح الاحتلال الأميركي بالعراق، ويسامح الاحتلال الإسرائيلي بفلسطين..
وبالتأكيد فليس لبنان لمن يريدون أن يثأروا من اتفاق الطائف بحجة أن ذلك هو بالضبط الثأر لرفيق الحريري.. فيغتالون الشهيد، بذلك، مرة ثانية.
وحملة العداء العنصري ضد السوريين بالمطلق وضد سوريا، تذكر وتستعيد ذلك العداء العنصري لفلسطين والفلسطينيين، وهي ليست »بشارة« بحكم وطني في لبنان يحمي هويته العربية بقدر ما يحمي »الحرية والسيادة والاستقلال«… فالعنصرية لا تحمي أوطاناً، ولا تحمي خاصة روح الانتماء إلى الأرض، أي »المواطن«.
* * *
لا يتسع هذا الوطن الصغير لكل هذا الحشد من الأصدقاء المعظمين من الدول الكبرى. إن دخولها فيه يفجره فيمزقه.
بين القرارين 1559 و1595 لم يتبق للبنان شيء من هذه الشعارات التي تخفق بها الرايات الحمراء.
ومع التسليم بأن السلطة مدانة ومرتكبة وغير موثوق بنزاهتها، فإن الوصاية الدولية التي فرضت على لبنان بموجب هذين القرارين ستكون ثقيلة الوطأة على مستقبله، دون أن يعني هذا الكلام تخفيف وطأة الاتهام على السلطة فكيف بتبرئتها.
وليس أسوأ من الممهدات للجريمة إلا النتائج: فالريبة التي رافقت كل تصرفات السلطة وفرت كل ما يسوق الاتهام إليها، من الحملات السياسية إلى التشهير الشخصي، ومن الطعن بسلامة الإجراءات الاقتصادية إلى إثارة الشكوك حول التآمر المسبق على الصعيد الدولي ضد لبنان وضد سوريا في لبنان… بل وضد سوريا في سوريا!
فإذا ما جمع ما قيل في الحريري، على المستوى الرسمي العالي، ما أعلن منه وما سُرّب، ما هُمس به وما أطلق للنشر ثم تم نفيه، لوجدنا أنفسنا أمام مضبطة اتهام تحوي أخطر الجرائم…!
لذلك جاء الاتهام شاملاً الدولتين، وصارت البيّنة على المدعى عليه.
ومع هذا التورط للسلطة في لبنان التي لم تسع يوماً إلى إثبات »استقلالها« في القرار عن السلطة في سوريا، بات منطقياً أن يمتد الاتهام إلى دمشق.. فأي محاسبة سياسية أو أمنية أو عسكرية أو حتى اقتصادية للسلطة في بيروت ستصيب السلطة في سوريا، بالتأكيد.
وهكذا صار لبنان المقر والممر للتدخل، بعد شؤونه، في شؤون سوريا… وهذه من النتائج المرتدة لشعار العلاقات المميزة!
إننا أمام »تفاهم نيسان المضاد«. ففي نيسان 1996 استطاعت الحنكة السياسية أن تستثمر المقاومة الباسلة للاحتلال الإسرائيلي والصمود الأسطوري للمجاهدين في أرضهم، من أجل تحقيق نصر دبلوماسي مؤزر تمثل في »تفاهم نيسان« الذي شكل محطة حاسمة في الصراع، مهّدت للهزيمة الإسرائيلية بالجلاء عن معظم الأرض اللبنانية في أيار 2000.
أما مع »تفاهم نيسان المضاد« فقد فشلت هذه السلطة المرتبكة في تعديل نص يمكن في أحوال أخرى أن يعتبر اعتداءً فظاً على سيادة لبنان وكرامة دولته… لكن الجريمة النكراء المرتكبة، والتصرف المريب والمرتجل لهذه السلطة العاجزة والمتفرقة أيدي سبأ، والتي تمتاز بالخفة والحماقة، كل ذلك ساهم في سوق لبنان مخفوراً إلى العدالة الدولية!
ألا تكفي كل هذه الكفاءات للتمديد لهذه السلطة الكفيلة بأن تؤذي أصدقاءها بقدر ما تخدم أعداءها؟!
* * *
مع ذلك، وبعد ذلك، لا بد من التحذير من الخطر الذي صار حقيقة: التدخل الدولي!
ولا بد من رفع الصوت في وجه أولئك المبشرين بهذا التدخل ونتائجه المباشرة التي تجلت طلائعها في اغتيال اتفاق الطائف، وتوجيه طعنة نجلاء الى هوية لبنان العربية، والتي ستمتد نارها لتحرق أغلى صفحة في تاريخ لبنان: المقاومة!
لا تستوي المطالبة بكشف حقيقة من حرض ومن نفذ اغتيال الحريري، مع هذا الفجور في الترويج للتدخل الدولي وكأنه آت من أجل خلاص لبنان وبناء غده الأفضل.
وليس من التعسف اتهام المروجين للتدخل الدولي وتبريره بأنهم شركاء في الاغتيال الثاني لرفيق الحريري، مهما بالغوا في التظاهر بالبكاء عليه وحمل صوره على صدورهم وتزيين ملابسهم بالشارات والشالات الأنيقة للحداد.
مطلوب معرفة الحقيقة حول من حرّض ومن خطط ومن نفذ جريمة اغتيال الشهيد رفيق الحريري. هذا مطلب اللبنانيين جميعاً.
لكن المطلوب أيضاً حماية رفيق الحريري في حياتنا السياسية بالتحصن في اتفاق الطائف، حتى لا يغتال التدخل الدولي لبنان، وعبره سوريا، كما اغتال من قبل العراق الذي جاءت منه أولى البشارات بأنه يستعد لأن يقاتل موحداً الاحتلال، وكما اغتال قضية فلسطين وما زال يغتال شعبها وحقوقه ومقدساته (مقدساتنا) كل يوم، كما شهدنا أمس مع محاولة اجتياح المسجد الأقصى.
والخوف أن يمتد الصراع حول وراثة هذه السلطة القاصرة والمرتبكة في لبنان، فتساعد من حيث تقصد أو لا تقصد معارضيها في اغتيال اتفاق الطائف والتمكين للتدخل الدولي… ومن ثم لتجديد الحرب الأهلية.
والعنوان الذي ستتخذه هذه الحرب الجديدة، إذا لم يتنبّه إلى مخاطرها اللبنانيون، كل اللبنانيين، هو سلاح المقاومة… وهو السلاح الذي استشهد دون المساس به رفيق الحريري، اللبناني حتى عظام عروبته.