ليس بوسع أهل الحكم، كل أهل الحكم بلا استثناء، التنصل من المسؤولية عن كارثة الحوامة (الخردة) التي سقطت أمس، في بعض أنحاء البقاع، فأودت بحياة أربعة من العسكريين المؤهلين الذين كانوا يؤدون واجبهم، مع وعيهم بأنهم إنما هم في نعش طائر.
ولن تنفع خطب الرثاء والأوسمة التي ستمنح للشهداء الأربعة: الملازم الطيار هادي صدقه (زحلة) والملازم الطيار ألبير مسلِّم (البيرة) والمؤهل نزار عبيد (طرابلس) والمعاون ريمون عزيز (زحلة)، في التخفيف من آثار هذه الكارثة التي يمكن القول براحة ضمير إنها كانت متوقعة!! ولا يعود التوقع إلى نقص في كفاءة الرجال، وإنما لأن الحوامات التي يملكها الجيش اللبناني قد أحيلت إلى التقاعد منذ زمن طويل في مختلف دول العالم، حيث للإنسان قيمة، وحيث يحظى من يتقدم لخدمة وطنه برعاية توفر له شروط السلامة، وهذا أضعف الإيمان.
إنها حوامات من نوع (Bel Hui بل هيوي) التي لعبت دوراً معروفاً في الحرب الأميركية على الفيتناميين قبل أربعين عاماً، وقد قدمت إلى لبنان بأسعار الخردة، لقدمها وتنسيقها (أي سحبها من الخدمة)، ولم تعد تتوافر لها قطع الغيار الضرورية بسبب التوقف عن إنتاجها.. وكثيراً ما لجأ سلاح الجو إلى فرط طائرة مستهلكة ليستخدم أجزاءها كقطع غيار للحوامات الأخرى!
ثم إنها بيعت إلى الجيش اللبناني بشروط سياسية فاضحة: إذ يحظر على الجيش أن يضع عليها أجهزة رادار كما يمنع من أن يزوّدها حتى بمدافع رشاشة.. وذلك حرصاً على الأمن الإسرائيلي.
ولتعذر الحصول على غيرها فإن الجيش ظل يستخدمها في المهمات الملقاة على عاتقه وهو يعرف أنها خطرة على طياريها، ومعرّضة للسقوط في أي وقت… بينما الوعود تغدق على القيادة بأن السلاح الحديث في الطريق، وبينما الملحقون العسكريون ورجال المخابرات الأميركية لا يتعبون من زيارة وزارة الدفاع وسؤال قيادة الجيش عن احتياجاتها وإعداد التقارير والوعد بسرعة التلبية… وبينما الناطقون باسم البيت الأبيض والخارجية والدفاع في واشنطن يكرّرون التعهّد بتسليح الجيش (وقوى الأمن) لتمكينه من… مراقبة الحدود مع سوريا وتنفيذ القرارات الدولية بتجريد المقاومة من سلاحها و ضبط فلسطينيي لبنان في المخيمات وخارجها ومحاصرتهم حتى.. الاختناق!
وليس سراً أن الحكومة تقتر على الجيش، بمؤسساته وتجهيزاته كلها، وتحسم من موازنته بينما تزيد باستمرار من تكليفه بمهمات أمنية تتجاوز قدراته، عدة وعدداً، في حين لا تفتأ تنوّه به، قيادة وعسكريين، وتشيد بمناقبيته وبدوره الحيوي جداً لضمان الأمن والطمأنينة للبنانيين، في أقسى الظروف.
فماذا إذن غير توقع أن تقتل الحوامات طياريها، وغير أن ينصرف الشباب عن الالتحاق بالجيش لأن مهماته ثقيلة، ورواتبه قليلة، والضغوط السياسية عليه مهينة وكثيراً ما كلفته بما ليس من صلب دوره واستعداده.
اللافت أن التقصير في تعزيز الجيش سلاحاً وتجهيزاً يترافق مع الحملة السياسية الضارية على المقاومة، وكأنها مصدر الخطر على الوحدة والسيادة والديموقراطية، بحيث يغدو لبنان مكشوفاً تماماً أمام الخطر الإسرائيلي اليومي والدائم والمفتوح.
وليس الحل أميركياً، في الأمن كما في الاقتصاد، بل هو في أن يلتفت الوطن إلى جيشه فيعزز قدراته لتتوازى مع المهمات المطلوبة منه.
وأبسط الخطوات أن تسارع الدولة إلى تجهيز جيشها وتأهيله للمهمة الأصلية، في وجه العدو ومحاولات الشغب، حتى يشعر الجندي بكرامة الانتماء إلى مؤسسة لها دورها الأساسي في حماية الوطن،
… وحتى لا تظل الحوامات المستهلكة نعوشاً طائرة لشباب الورد في جيش لبنان الذي تتكاثر مهماته بقدر ما تتناقص إمكاناته.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان