لم يفاجأ أحد، لا داخل فلسطين ولا من حولها، ولا خاصة لدى عدوها الإسرائيلي، ثم في العالم البعيد، بالانفجار الدموي لأزمة السلطة فيها في الشارع، أمس، واندلاع الفوضى المسلحة في ما يشبه التمهيد للانتحار الجماعي، تحت عنوان الصراع العبثي على السلطة الأسيرة في كل من غزة والضفة الغربية.
فعندما تغدو السلطة عند أهلها أهم من الوطن ، تختفي صورة العدو إذ ينساه الجميع في حمى الصراع على الوهم، ويصبح همّ كل طرف القضاء على منافسه الذي سرعان ما يتحول إلى خصم قتاله أبدى وأولى من قتال العدو الذي يحتل الوطن والإرادة والسلطة ويوظف لصالحه الأحقاد والمنافسات والمناكفات على النفوذ داخل السجن الذي كان اسمه الحلم الفلسطيني بالتحرر والاستقلال بدولة.
لكأنما شاخ النضال الوطني الفلسطيني. استهلكت زخمه المشع الصراعات مع الأهل الأقربين ، وضربته حمى السلطة ، وأخذه اليأس إلى حافة الاستسلام لشروط عدوه من أجل كيان ما ، ولو على جزء من أرضه، تحت وهم أن العودة والدخول إلى الأرض وتولي زمام الأمور فيها، تحت رعاية دولية، هو اندفاع نحو حلم الدولة التي لا بأس إن هي وُلدت منقوصة السيادة إذ سرعان ما سوف تتكامل بالاعترافات الدولية والرعاية الأميركية والرضوخ الإسرائيلي لمنطق أهون الشرور…
كانت القيادة الفلسطينية آنذاك، التي عادت إلى الأرض مثخنة بالجروح، مثقلة بكل عيوب السلطة ومباذلها، تراهن على الدينامية التي ستستولدها العودة بصورة فيها شيء من علامات الانتصار ، إذ تخلصت من ضغوط العرب على قرارها المستقل ، ثم إنها أكدت ثقتها بالشريك الإسرائيلي الذي خضع أخيراً للضغط الأميركي (ومن ثم الدولي) وسلّم بالحد الأدنى من الحقوق لشعب فلسطين ليتخلص من قضيته التي كانت تحظى بكل ذلك التأييد الشعبي العربي المفتوح، وبتضامن أحرار العالم ، والتي كانت قد باتت تشكل عبئاً حقيقياً على المجتمع الإسرائيلي الهجين، الذي تعب من الحروب برغم انتصاراته فيها وقرّر أخيراً أن يقدم الحد الأدنى من التنازل من أجل الحد الأقصى من الأمان والازدهار تحت خيمة التفوّق الهائل في القوة على مجموع العرب (ومن يناصرهم)…
لكن الوهم سرعان ما تبدّد، فإسرائيل التي استعادت أهل الثورة من الفلسطينيين أسرى سلطتهم، كانت تعرف أن الداخل لن يسلم بسهولة لهؤلاء العائدين من الخارج وكأنهم أبطال التحرير وبالتالي أصحاب الحق المطلق في احتكار السلطة، بينما أهل الداخل الذين صبروا وجاهدوا ودفعوا من دمائهم ومن حقهم في الحياة أعباء الاحتلال الإسرائيلي، وفيها القتل والأسر مدى الحياة والتشريد، هم الرعايا وعليهم التسليم بالسلطة الجديدة والخضوع لها والإقرار بفضلها عليهم إذ إنها قد حرّرتهم من الاحتلال الذي ازداد شراسة بعدما باتت السلطة جميعاً رهينة قراره، يأمرها فتمتثل وإلا خنقها بالحصار والقصف والنسف واجتياحات المدن والقرى ومخيمات اللجوء الثاني والثالث على مدار الساعة.
وتحت الضغط الدولي، ومن أجل الحصول على شهادة حسن سلوك، كان على السلطة الأسيرة والمشلولة القدرة أن تؤكد ولاءها للديموقراطية، وأن تجري الانتخابات لمجلسها التشريعي (الذي لا يملك من أمره شيئاً) تحت أنظار العالم… فكان أن فازت حماس التي حصدت جماهيريتها بفضل تهالك السلطة وفسادها وعجزها عن تلبية المتطلبات البسيطة للشعب الفلسطيني، المحاصَر والمجوَّع، والمنهوبة أرضه والمصادرة مقدراته وأسباب حياته اليومية.
صارت السلطة برأسين.
وكانت الدول جاهزة لتنحاز إلى السلطة التي اختارتها منذ البدء، وفوّضتها بالشأن الفلسطيني تحت الرعاية المباشرة للاحتلال الإسرائيلي،
لكن الإنصاف يقضي بالقول إنه ليس ثمة أبيض وأسود.. فلا فتح هي الفساد مطلقاً، ولا حماس هي الطهارة مصفاة.
على أن التنظيمين يبدوان مهددين بالسقوط في الامتحان الأصعب: السلطة.
مع ذلك فما زالت الثقة بوعي الشعب الفلسطيني، ذي التجربة النضالية المضيئة والممتدة عبر ثمانين عاماً أو يزيد، أعظم من الخوف عليه.
لقد أثبت في العديد من التجارب المريرة أنه أقوى من الفتنة ومن محاولات استدراجه إلى حومة الحرب الأهلية.
وأثبت، مراراً، أنه أعظم وعياً من قيادات الفصائل المتصارعة على السلطة.
وها هو الآن أمام الامتحان في جهاده الأفضل.. والأمل أنه سينتصر بقضيته ولقضيته ولو على حساب السلطة برأسيها المشبعين بالوهم.
ولعل الدم هو المنبّه والعاصم من الفتنة!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان