ها هي القاهرة تفتح لك ذراعيها وتستعيدك بلا عتاب او حساب. تمنحك العذر موفرة عليك ارتباك من يحرج عقله عاطفته: لك ان تكون حيث تريد في السياسة، لكن القاهرة مدينتك، خميلتك، منتجعك وموئل أيامك الجميلة في السياسة وخارجها.
في الطريق بين المطار والفندق تخترق بالعين والذاكرة ”المدن” الكثيرة المكتظة بالفقراء والتاريخ والهموم والأحلام ما ”تقاعد” فيها في أحضان العجز وما تستولده الحاجة البشرية المشروعة الى التغيير.
الكثير ممن يستوطنون وجدانك غدوا الآن اسماء بشوارع او ساحات او محطات مترو. لقد مضوا في الرحلة الاخيرة مخلفين وراءهم الفراغ والجدل المفرغ من اي مضمون وبعض كتبة السلطان الذين لا يعرفون من الكتابة الا الدعاء، وبأخطاء إملائية فاضحة.
الخطأ ولود.
كيف تعبر اللغة السلمية عن سياسة جانحة؟
لكن النيل يستمر في صمته المهيب، لا يلتفت ولا يتوقف ليسمع الهذر المتحول مع الليل الى أغان هابطة تكمل صورة عصر السقوط.
النيل منبع السحر والجلال والرواء والخير: يغريك بالحب، ويدفعك دفعاً اليه. تحسه يسري في شرايينك ويستقر في قلبك فتحب الارض والناس الذين يعيشون به وعليه، ويختزنونه في عيونهم والأفئدة، ويجعلون اسمه قسما.
النيل يأخذك الى الحب، والحب يهمي عليك رذاذا من هذا ”النجاشي” الذي يحمل ”ارغوله في ايده”، كما وصفه احمد شوقي بصوت محمد عبد الوهاب.
والنيل ديوان مفتوح لشعر الاسحار وهمس الأحبة ودعاء المظلومين الذين يجيئون فيشكون اليه شقاء الايام وسهر الليالي ونقص الرزق وجور من بيدهم الأمر.
تسارع كالطفل المحترق شوقا الى امه، تستعيد اصدقاءك وشبابك ومهنتك، ويجيئونك تسبقهم روح التسامح التي تتميز بها مصر، فترمون جفوة ايام الضياع والانحراف والخيبة خلفكم وتستأنفون أحاديث الصبا التي تتداخل فيها التحليلات بالمعلومات، والنكات والقفشات بالآراء الرصينة والجادة، والتي تنقسم فيها ”الشلة” كالعادة فريقين مع حكام متبرعين لإدارة ”الصراع” بين الاعضاء المؤسسين ”لحركة الفضوليين العرب”!
تتجول في الشوارع متنقلا بين ”مدن” القاهرة العديدة، الاسلامية الفاطمية، والمملوكية والتركية والملكية الايطالية الفرنسية، والجمهورية الشعبية بطابعها العام، ثم مدينة الابراج الحديثة والفنادق الفخمة المملوكة من خليجيين، عموما، وشركاء لهم من رواد عصر الانفتاح والمنتفعين به الى حد التخمة.
الفقراء قد ازدادوا فقرا وتزايدوا اعدادا بلا شك، فالدخول ما زالت متدنية وكلفة الحياة الى تصاعد مستمر، وحيتان الانفتاح وغيلانه جنوا ويجنون أرباحا خيالية معظمها على حساب خبز الناس وحقوقهم الطبيعية في التعليم والصحة والمواصلات النظيفة وفرص العمل الشريف.
و”عندما يأتي المساء” يستولي النيل بسحره الغامض والمهيب على المدينة والملايين فيها: يمسح بيده الحانية على هموم الفقراء الذين يتدافعون الى جنباته طلباً لنسمة ندية وجلسة فرفشة غير مكلفة او للقاء حب مختلس في قلب الزحمة بعيدا عن ”العواذل”، ومظلل برموش اصحاب الذكريات عن أيام شبابهم المترع بالحب المختلس والمحمي بسحر النيل وصمته.