كان استاذي سعيد فريحة، منشئ دار الصياد التي كانت قلعة للصحافة الوطنية، قبل أن يغيبه الموت فيتولاها من لا يستطع أن يكون بمستوى تاريخها، يرى نفسه شريكا لأبطال الاستقلال في تشرين الثاني عام 1943: رياض الصلح أساسا، وبشاره الخوري، والأمير مجيد ارسلان وحبيب ابو شهلا، وصبري حماده، والوثيقة ومعها علم الاستقلال الذي رُسم وتم تلوينه في دارة ابو علي سلام، والد صائب سلام واشقائه الستة..
من هنا كان حرص سعيد فريحة على اجراء تحقيق صحافي في تشرين الثاني من كل عام عن ابطال الاستقلال وعن “السرايا” المؤقتة التي اتخذت من أحد بيوت بشامون مقراً لها.
ذات تشرين ثانٍ وقعت القرعة عليّ لإجراء هذا التحقيق.. وكنت اعرف سلفاً أن الزمن قد مر، وان اهل المكان قد اندمجوا في الاسطورة. فباتوا يرددون الكلام الذي يرضي مصدقيها، بغض النظر عن الوقائع الاصلية.
المهم، قصدت بشامون ومعي زميلة عزيزة ومصوراً. وصلت البيت ذا التاريخ، واستقبلتنا السيدة المستعدة ـ في مثل هذا اليوم ـ للقاء الاعلاميين ورواية الحدث التاريخي بما يرضي اصحاب الشأن.. ودورها الاستثنائي.
جلسنا نستمع من دون أن نقاطعها وهي تروي ما تعودت أن ترويه عن ابطال الاستقلال وصموده العظيم والمعارك البطولية التي خاضوها لتحقيق هذا الهدف الوطني الجليل.
عندما انهت الرواية السنوية المعادة والمكررة، خرجنا من دارها، فصرفت المصور وعدت مع زميلتي الماهرة، فقلت: سيدتي، نحن لسنا بصحافيين، بل نحن نعمل مع الاونيسكو، وهي المؤسسة الدولية المعنية بتوثيق الاحداث التاريخية، بشخصوها وأمكنتها ذات القيمة الاستثنائية..
كانت العجوز تتابع كلامنا والدهشة تعقد لسانها.. فأكملت:
إن بيتكِ يمكن أن يكون متحفاً. إن لهذا البيت قيمة معنوية عظيمة. ونحن مستعدون لمساعدتك بشرط..
قالت العجوز متلهفة: وما هو الشرط؟
قلت: أن نحصل على الرواية الصحيحة، بتفاصيلها الكاملة، مجردة من العاطفة والانحياز. انها قضية تاريخ، ولا يجوز التلاعب بالتاريخ..
قالت السيدة الاذكى مما قدرنا، والتي تلعب دورها “الاعلامي” بإتقان، حرصاً على كرامة الاستقلال:
اقعد يا ابني، اقعدي با ينيتي، لأحكي لكم القصة الحقيقية..
جلسنا ونحن نقول: كلنا سمع.. ونكرر اننا نريد الحقيقة ولا شيء الا الحقيقة..
قالت العجوز: الحقيقة يا اولادي أن الامور لم تجرِ كما اخبرتكم بداية..
بحسب التعليمات. دولة الرئيس، كما كانوا ينادونه، يمنعني من كي البسته، ويرسلها إلى المصبغة في بيروت. وفي الليل كان يشرب مسكي او فسكي او ما لا اعرف اسمه من المشروبات حتى السكر، فاذا سمع اطلاق رصاص، ولو بعيداً عن مقره، دفن نفسه تحت السرير.. ثم انه كان يرفض أن اتولى بنفسي كي قمصانه وبدلته، بل كان يرسلها إلى بيروت..
تنهدت العجوز قبل ان تُكمل فتقول: المير مجيد كان يرتدي الثياب الحربية كلما جاء مصورون، من بيروت.. أما الرجال الذين كانوا مستعدين للموت فهم ابناء بعلبك والهرمل الذين اوفدهم صبري حماده..
كنا نسمع هذه الوقائع مطرقين، ونظهر اننا نسجل كل حرف.. وعندها التفتت الينا العجوز تسأل بشيء من اللهفة: انا قلت ما عندي.. فقولوا لي متى يكون جواب الاونيسكو تبعكم؟!
قلنا: إن شاء الله خير أيتها السيدة الصادقة.. إن شاء الله خير، وقمنا لننصرف ونحن نتعثر بكلمات الحقيقة عن البطولات في بشامون.