طلال سلمان

عن تجديد الثورة العربية: الجزائر والسودان والغد الافضل

من زمان اختفت كلمة “الثورة” من القاموس اليومي للمواطن العربي..

ولقد تجدد الأمل بالتغيير الذي يُخرج الامة من كابوس القهر والتخلف والدكتاتورية مع انتفاضة “محمد البوعزيزي” في تونس، التي بشرت بفجر عربي جديد لا يقف عند حدود “البلاد الخضراء”… وبالفعل فان القاهرة لم تتأخر عن الانضمام إلى ركب الثورة من اجل التغيير، ونزلت الملايين إلى ميدان التحرير في مشهد رائع قد يكون واحداً من أبهى الانتفاضات الشعبية السلمية في العصر الحديث.

وكان منطقياً أن تتحرك الجماهير في مختلف الساحات العربية طلباً للعدالة والحرية، فكانت انتفاضة مرتجلة في سوريا سرعان ما ركبتها القوى الخارجية المناهضة للنظام، (تركيا والولايات المتحدة الاميركية، اساساً، ومن خلفها العدو الاسرائيلي) فتحول مشروع الثورة الشعبية إلى “مؤامرة دولية ـ عربية” على سوريا بعنوان نظامها، دمرت البلاد وشردت العباد وسمحت بتقنين الوجود العسكري لحليفي النظام (روسيا وايران).. خصوصاً وان القوات العسكرية التركية تقدمت في الشمال السوري كراعية لتنظيمات اسلامية وعنصرية متعددة (ادلب وما جاورها حتى الحدود مع تركيا)..

كذلك فقد اهتز في العراق الوضع الذي استولده الاحتلال الاميركي (في العام 2003)، خصوصا وان حقبة حكم صدام حسين كانت قد دمرت الحياة العامة، واعادت النفخ في نار الطائفية والمذهبية، فضلاً عن استخدام القوة المفرطة ضد الاكراد في الشمال ومطالبتهم بنوع من الحكم الذاتي والادارة المحلية بديلاً من الانفصال.

صفحات من تاريخ جديد

ها نحن، الآن، مع الحراك الشعبي العظيم في كل من الجزائر والسودان امام صفحات جديدة في التاريخ العربي الحديث تكتبها الجماهير بملايينها المحتشدة في كل من الجزائر العاصمة وسائر المدن والقصبات الجزائرية، وكذلك في الخرطوم عاصمة السودان، تطالب بإنهاء حكم الفرد المستند إلى “العسكر”، واستعادة الشعب ابسط حقوقه في أن يكون هو مصدر السلطة، وهو من يختار نظامه وبالتالي رئيسه وحكومته ومجلسه النيابي في مناخ من حرية الرأي والتفكير والتعبير يسمى “الديمقراطية”.

نتيجة لهذه الانتكاسات التي بلغت ذروتها في تشويه معنى “الثورة” وشرفها، ما جرى بعد ذلك في ليبيا من هيجان شعبي دخلته مؤثرات خارجية عديدة، وكانت النهاية الوحشية للقائد الليبي معمر القذافي (ورفيقه المخلص ابو بكر يونس) في مشهد غاية في البشاعة، غرقت بعده ليبيا في حرب مفتوحة، اعطت “الدول” فرصة ممتازة لمحاولة السيطرة على هذه البلاد قليلة السكان، هائلة المساحة، الغنية بثروتها النفطية.

وما تزال ليبيا، حتى الساعة، غارقة في دماء اهلها، و”الدول” بغربها اساساً، مع مشاركة روسية خجولة، تتصارع بجماهير الشعب الليبي و”الجيوش” التي فبركت على عجل مستفيدة من مخلفات ما كان يمتلكه الجيش الليبي من اسلحة ثقيلة فيها الطيران الحربي (فرنسي وروسي) والدبابات والمدافع الخ..

وبالطبع فان هذه الحرب الاهلية، بنسبة ما، قد صارت ـ نتيجة تدخل “الدول” ـ حرباً مفتوحة تشارك فيها او ترعاها او تحاول الافادة منها دول عديدة بينها الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا، وتتأثر بها دول عربية مجاورة مصر وتونس ثم تشاد ودول افريقية عديدة.

على أن ما نشاهده الآن ونشهد على حدوثه في كل من الجزائر والسودان هو النموذج الفذ للثورة الشعبية بمعناها الاصلي، أي المحصنة ضد الزور والتزوير كما ضد الخديعة التي طالما لجأت اليها الانظمة التي تثور ضدها شعوبها.

ذلك أن الحراك الشعبي في الجزائر كما في السودان يقدم مشهداً تاريخياً غير مسبوق، أقله في البلاد العربية، لعظمة الجماهير ووعيها واصرارها على استعادة حقها في حكم بلادها من اسطورة “القائد ـ البطل” الذي “يجسد ارادة الشعب”، كما من العسكر الذي يحكم هذين القطرين العربيين الغني شعباهما بالتجربة البطولية ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي (كما في الجزائر) او ضد الدكتاتورية العسكرية التي يحاول ضابط رفيع الرتبة مع عدد من الضباط التابعين له، أن يخضع لها شعب رفيع الوعي، غني بالتجربة النضالية مُصّر على استعادة حقوقه في وطنه وبناء تجربته الديمقراطية بعد عهد من الطغيان طال واستطال حتى كاد الليل يقضي على الامل بصبح جديد.

على هذا فان الأمل بنتاج هذه الثورة الشعبية الرائعة يتجاوز اسقاط النظامين الفاسدين المفسدين، إلى إعادة الاعتبار للشعب وقدراته غير المحدودة متى أراد، وحقه في بناء النظام الذي يليق بنضاله وتضحياته الممتدة عبر عشرات السنين.

والحقيقة أن معظم الانظمة العربية، ملكية وجمهورية وإماراتية، قد فقدت شرعيتها، ربما لان حكم الاسرة الواحدة او الرجل الواحد، قد أبعد القيادة عن الشعب وأقام بينمها سداً من المصالح المذهبة التي تقسم البلاد إلى حكم مستبد يتحكم ـ منفرداً ـ بالثورة الهائلة التي منحتها الطبيعة لتلك الارض (ومياهها) وشعب مستبعد عن دائرة السلطة والقرار، يمضغ فقره مستكيناً وإلا هوت السيوف على رؤوس المعترضين فقطعتهم في الميادين العامة لتكون عبرة لمن يعتبر.

لقد انتهى عصر الملك ـ الرئيس ـ الامبراطور ـ أمير المؤمنين ـ القائد المفدى ـ الخ وحل عصر الشعوب والديمقراطية والانتخاب وحق الاختيار..

الشعب يُسقط الطغاة..

سقط الاباطرة في اوروبا منذ عقود، وكذلك القياصرة في روسيا، والملوك ـ الالهة في سائر ارجاء الدنيا، وساد العلم واسباب المعرفة، وعرفت الشعوب حقوقها وأولها انها هي ـ لا غيرها ـ صاحبة القرار في شؤون بلادها، كالحرب والسلم، والحق في التقدم واللحاق بركب الشعوب التي تختار حكامها بالانتخاب الحر، وكذلك مجالسها النيابية التي تحاسب الحاكم إذا ما خرق الدستور او تجاوز صلاحياته معتبراً انه الحاكم الفرد الذي لا راد لقراره ولا شريك له فيه.

لقد أسقط الشعب في الجزائر حاكمين طاغيتين، استعانا بالجيش على الشعب، فافسدا البلاد والعباد: جاع الشعب مع أن طاقته على العمل فائضة عن حاجة البلاد (او مهملة في بلاده) فذهب يبيعها للأجنبي او العربي (فرنسا وسائر اوروبا بالنسبة للجزائري).. هذا فضلاً عن الثروة الوطنية من النفط والغاز..

أما الشعب السوداني الذي عرف الاحزاب والنقابات منذ دهر والراقي بسلوكه السلمي برغم القمع، فقد “هج” إلى البلاد العربية اساسا (ومعها بريطانيا وبعض افريقيا)..

الملايين في شوارع الجزائر العاصمة ومختلف المدن في الشرق والغرب والجنوب..

والملايين في شوارع الخرطوم والخرطوم بحري في بلاد النيليين، السودان، مع ذلك حافظت الجماهير على حقها في التظاهر السلمي واعلان رفضها النظام الدكتاتوري الذي يهين ـ بوجوده ـ كرامة الشعب ويغتال حقوقه واولها حقه في بناء غده الافضل، بجهده وعرقه، مع الحفاظ على عزة نفسه.

ومؤكد أن قوى الاستعمار (قديمه الاوروبي وجديده الاميركي ومعهما اسرائيل وبعض اباطرة ثروات الذهب الاسود من العرب)، قد باشرت تآمرها على هاتين الثورتين الشعبيتين العظيمتين في الجزائر والسودان، وان اكياساً من الذهب ومعها اطنان من الوعود بالمساعدة، قد تدفقت على هاتين الدولتين اللتين بنيتا بالعرق والدم، انهار الدم، والشهداء، الالاف المؤلفة حتى المليون وأكثر من الشهداء.

بل أن بعض “الزعماء” العرب قد تجرأ على الشعب السوداني وثورته فطلب الافراج عن الدكتاتور البشير، واستضافته بعيداً عن السودان، موجها اهانة لا تغتفر إلى هذا الشعب الطيب، عبر اعلان الاستعداد لمنح مساعدات عاجلة وقروض ميسرة بمليارات الدولارات لهذا الشعب الطيب الذي عانى من الدكتاتورية العسكرية لأكثر من ثلاثين سنة متصلة، والذي اعاد الاعتبار ـ برغم قهر النظام ـ إلى احزابه التاريخية (حزب الامة، الحزب الشيوعي) والى نقاباته ذات الدور النهضوي المميز.

“بلادي، بلادي، بلادي، لكِ حبي وفؤادي”

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية

Exit mobile version