لم أعرف صلاح جاهين، على المستوى الشخصي، الا قليلاً.. لكنني حفظت الكثير من رباعياته عن ظهر قلب، وكنا ـ بعض اصدقائه وأنا ـ نترنم بها في السهرات ونستشهد بها في المحاورات، ونغني اشعاره الوطنية المجيدة التي خلدتها السيدة ام كلثوم بصوتها الذي لا مثيل له ولا شبيه، وكذلك التي غناها فاطربنا العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ.
كان اللقاء الاول في مجلة “صباح الخير” التي اصدرها احسان عبد القدوس وسلم رئاسة تحريرها إلى صاحب فكرتها لكي تكون منبراً وملجأ للشباب احمد بهاء الدين.
كانت المجلة فتحاً في عالم الصحافة، جديدة في اخراجها، يحتل الرسامون، لا سيما مبدعو الكاريكاتور الصدارة في جهاز تحريرها فينشرون رسومهم حاملة الابتسامات والافكار الجديدة مقتحمة اسوار السائد من التقاليد والاوهام محاولة أن تكون منبر الشباب… وكان صلاح جاهين أحد اركانها ومعه عدد من أبرز رسامي الكاريكاتور في مصر: أحمد حجازي، بهاجيجو الشهير ببهجت عثمان، رجائي، جورج البهجوري، والمبدع محي الدين اللباد ومعهم جيل من الرسامين الشبان الذين سيغنون الصحافة المصرية بالنقد الجريء والمبهج.
أما اللقاء الثاني فكان في مكتب أحمد بهاء الدين الذي كان قد انتقل إلى دار الهلال ليكون رئيس مجلس ادارتها ورئيس تحرير “المصور”.
ثم التقينا اكثر من مرة في “الاهرام” الذي شكل صلاح جاهين برسومه المبدعة منافساً خطيراً لكتابها، خصوصاً عندما اقتحم صفحات الثقافة فيها برباعياته المميزة بكثافة الافكار الاجتماعية التي تجاوز حدود الفلسفة.. كذلك تلاقينا في مقهى “التافرنا” و”اخسن ريتسينا” و”ستافرو” وهو “زعلان” لأنه لم يسافر مرة إلى اثينا ولا عرف اليونان.
كذلك تلاقينا بالمصادفة أكثر مما بالقصد، في سهرات الحرافيش التي كانت تنعقد كل خميس تحت قيادة الروائي نجيب محفوظ وتجمع عدداً من المبدعين، كتاباً ورسامين وشعراء، وفضوليين مثلي.
ومن سوء حظي أن معظم لقاءاتي مع صلاح جاهين كانت بعد هزيمة 1967 التي اسميناها لتخفيف وطأتها علينا “النكسة”، وكان المبدع الكبير قد دخل ليل الحزن الوطني بل القومي وفقد الكثير من حماسته لثورة جمال عبد الناصر التي غناها اجمل قصائده بصوت السيدة أم كلثوم او بصوت عبد الحليم حافظ فسكن معهما وجداننا..
ولان صلاح جاهين المبدع رسماً وشعراً فقد وجدت من واجبي تكريمه باستذكاره مع غيره من الكتاب الذين احبوه واعجبوا بإبداعه، مثلي، فكتبوا له او عنه .. ثم مع مقاله عن شعره:
*****
كيف كتبت القصيدة العامية؟
صلاح جاهين
(القاهرة 1977)
بدأت محاولاتي الشعرية الأولى بالفصحى. وفي القالب العمودي، ويعلم الله انني ما كنت أرضى بأقل من أمرئ القيس لأحاكيه، ولا من المتنبي لاستمد منه النفس الشعري. وكانت موضوعاتي معظمها وطني، واقلها عاطفي، لأنني كنت أصر على الا اقول الا ما أحس به فعلاً، اذ لا مجال للحرج في أن ابوح بمكنون فؤادي نحو الوطن، اما نحو ابنة الجيران فلانة الفلانية، فالأمر يختلف، او كان الامر في ذلك الوقت يختلف. وكان الشعراء الكبار، ايامها، يكتبون شعراً عاطفياً او غزلياً، معظمه بل الغالبية الساحقة منه، يدور حول قصص مخترعة او متوهمة او مفترضة، ولم أكن أحب ذلك. وقد سألتني ام كلثوم فيما بعد لماذا لا اكتب اغاني عن الحب، فقلت لها: لان ما سأقوله لن توافق عليه لجنة النصوص ولا شرطة الآداب.
كان الغليان الثوري قد بلغ ذروته في عامي 1951 ـ 1952، عندما قرأت في احدى المجلات السياسية، بالبنط الصغير، قصيدة بالعامية بتوقيع فؤاد حداد، تقول سطورها الأولى:
“في سجن مبني من حجر،
في سجن مبني من قلوب السجانين،
قضبان بتمنع عنك النور والشجر،
زي العبيد مترصصين”
فلما قرأت هذه القصيدة المتجهمة، المتقشفة في الفاظها، بحثت مبهوراً عن كاتبها حتى عثرت عليه، وكنت قد بدأت انا الاخر بضع محاولات بالعامية، اغلبها متأثر بالأستاذ الكبير بيرم التونسي. ولذا هالني أن اقرأ نظماً بالعامية يسير في طريقه الخاص، ويستمد منطقه من نفسه.
قضيت مع فؤاد حداد زمناً لا اذكر طوله بالتحديد، ولكنه كان كافياً لان تتكون في نواة ما يسمى بشعر العامية المصرية.
كنا نقرأ معاً اشعار المقاومة الفرنسية ويساعدني فؤاد على فهم معاني الكلمات، وكنا نرفع عقائرنا في الاماكن الخلوية منشدين شعر العامية اللبنانية، والمعلقات الجاهلية، وقد تأثر فؤاد بخطابية الشعر العربي القديم أكثر مني، لأنني كنت قد بدأت اغازل الشعر الحديث الذي حطم عمود الشعر، والذي كان شعراء الفصحى قد بدأوا ينشرونه ولكنه لم يكن ينزل لفؤاد حداد من بلعوم.
كانت الصحف اليومية، والمجلات الاسبوعية المستقرة، لا تنشر شعراً، وتعتبر الشعر شيئاً متخفياً، وذات يوم، وكنت اعمل رساماً كاريكاتورياً في مجلة “روز اليوسف” وضعت في احدى المساحات المخصصة لرسومي، قصيدة “الشاي باللبن” فلما قرأها الناس بادروا بإرسال خطابات الاستحسان إلى المجلة، فطلب مني كبراؤها أن اوالي نشر قصائد من هذا النوع. ولما صدرت مجلة “صباح الخير” نقلت نشاطي اليها، وهناك بدأت حملة كبيرة، للترويج للشعر، ظهرت اثارها في غيرها من الصحف، فأخذت انشر كل اسبوع رباعية، ثم منحني فتحي غانم صفحتين اعطيتهما عنوان (شاعر جديد يعجبني). وفيهما بزغ نجم كثير من الشعراء، الذين اتضح أن مصر تعج بهم ونحن لا ندري: الابنودي، سيد حجاب، فريدة الهامي، فؤاد قاعود، محمود عفيفي، فؤاد بدوي، عبد الرحيم منصور وغيرهم.
عندما نشرت الطبعة الأولى لديوان (كلمة سلام) ظهر على غلافه بخط صغير، تعبير (قصائد شعبية). ولكن منذ (عن القمر والطين) ظهرت عبارة (اشعار بالعامية المصرية) على كل دواويني، وعلى دواوين بقية الشعراء الذين اشتركوا بشكل او باخر في خصائص واحدة. فكلهم بدأوا بالفصحى، وانطلقوا من العاطفة الوطنية، واتسعت افاقهم إلى الادب العالمي، وحملوا للفلكلور المصري خاصة والعربي عامة نفس الاحترام، واختاروا أن يكتبوا افكارا فصحى بألفاظ عامية، وهذا هو خصائصهم.
كان اخر دواويني صدوراً، هو ديوان “قصاقيص ورق” صدر في نهاية ديسمبر (كانون الاول) 1965 واعيد طبعه في يناير (كانون الثاني) 1966. ولم يظهر لي ديوان واحد منذ ذلك الوقت، كانت هزيمة 67 قد القت بي في هاوية من الحزن لا قرار لها.
وفي الجامعة قال طالب لولدي: نحن نسمع دائما أن اباك شاعر، ولكننا لا نرى حرفاً واحداً من شعره. فاستفزني هذا القول وشجعني على أن اتخذ الخطوات العملية لإعادة طبع دواويني كلها في مجلد واحد.
*****
دليلي إلى القاهرة والى “الحرافيش”
بقلم ليلى عسيران
صلاح جاهين الذي كتب “والله زمن يا سلاحي”. نشيد مصر الوطني الذي ردده ملايين العرب بتلقائية قلما عرفها تاريخنا المعاصر.. كان يجد الوقت الكافي كلما قصدت القاهرة، ويفرغه لي. فكنت امسك بيده، واعبُ من ذاته، واغوص عبر الباب الصامد في نشأتي لأتعلم منه. كنت اختزن خصوصياته وقلقه وعذابه، والاعب ولديه بهاء ثم من بعده امينة، وأحيا برفقته حياة أخرى، غير تلك السائرة على وتيرة الناس الراضين بدوامة الحياة. عشت معظم جوانب ثورة مصر في ثورة صلاح جاهين الذاتية، ومعه كان الليل نهاراً، والصبح فكرة، والفجر ولادة قصيدة، او آخر لمسات لوحة، الحياة لا تحكى، فهي التآلف الذي يجبل بدم الروح ودورة العقل، لقد قال جاهين في احدى رباعياته:
” انا اللي بالأمر المحال اغتوى
شفت القمر نطيت لفوق الهوا
طلته ما طلتوش أيه انا يهمني
وليه..ما دام بالنشوة قلبي ارتوى
عجبي!”
ورحنا نجوب شوارع مصر القديمة، لنبحث عن المطلق وعن المحال. علمني كيف اشم رائحتها، وكيف افهم منطق اهلها، وما هي مشاعر اناسها. عرفني على المسرح وعلمني ما هو المسرح. عرفني على المخرجين والممثلين وعلى الفنانين الراسمين، ومعه جالست الموسيقيين، وجعلني “الحرفوشة الأولى”.
ولقد دعونا، زوجي وانا، صلاحاً إلى زيارة لبنان. وعاش معنا فترة حافلة بالتعرف والتعارف على تلك المدينة الوضاءة بيروت. ورسم اثناء اقامته عندنا كاريكاتيراً تعبر عن مقالات كان امين الحافظ قد كتبها عن نماذج من الناس في مفكرة جريدة “الجريدة”.
واقترحنا على صلاح أن نأخذه إلى الجبل، ولم يكن يتصور أن الصعود إلى مصايفنا الشهيرة بتلك البساطة. كان الجبل بالنسبة له “المقطم! وتركناه في غرفته ليستريح، فاذا به بعد فترة وجيزة يهرع الينا جزعاً، وقال والدهشة تملأ وجهه: يا جماعة أن الغيوم دخلت غرفتي، الغيوم غطت الغرفة، ولم اعد ارى سريري! ألحقوني!”
هذا الطفل في صلاح جاهين ظل يومين او ثلاثة، يتعلم أن يلفظ كلمة “الغطيطة”.
صلاح جاهين من العباقرة الذين عاشوا بلا عقد، رقص على هواه في شوارع بيروت، تعلم اعمال فنانيها، وناقش في السياسة، وكان هو الاتي من بلاد الفراعنة، أكثر طلاقة بمفهوم العروبة من بعض ابناء وطننا، دعانا الصديق جورج سكاف إلى منزله في زحلة وهناك التقى سعيد عقل، وناقشه طيلة ساعات في عدم جدوى “اللغة اللبنانية”. وعاد صلاح إلى مصر يحمل معه صوراً بالكاريكاتير لعبد الوهاب ينشد شعر شوقي على البردوني.