كأنما كُتب على عرب القرن الحادي والعشرين أن يخرجوا من تاريخهم او ينسوه ويخففوا من زهوهم بماضيهم التليد او حتى بماضيهم القريب، الخمسينات والستينات من القرن الماضي..
في ذلك الزمن الجميل، وكرد من موقع الشعب المؤمن بحقه في بلاده حرة، مستقلة قادرة ومؤهلة للتقدم والانتساب إلى العصر، وعلى بناء مستقبلها الافضل والذي يليق بتاريخها التليد، توالت التفجيرات الثورية في مختلف ارجاء الوطن العربي بدءا بمصر، ثورة 23 (يوليه) تموز 1952… في البدايات كرد فعل على “النكبة” في فلسطين ـ وهو تعبير جنائزي شاع استخدامه للهرب من كلمة “هزيمة” التي منيت بها “الدول العربية” حديثة الولادة ومعدومة الامكانات، اقتصاداً وعمراناً، جيوشها محدودة العدد وتكاد تكون بلا سلاح، والعلاقات بين دولها حديثة الاستقلال شكلية، خصوصاً وان عدداً كبيراً منها كانت ملكية النظام (مصر، ليبيا، المغرب، فضلاً عن السعودية وعراق فيصل الثاني الهاشمي ونوري السعيد).
في 22 شباط (فبراير) 1958 قامت اول دولة للوحدة العربية في التاريخ الحديث عبر اندماج مصر وسوريا في “الجمهورية العربية المتحدة”.
في اوائل الستينات عاش العرب الفخر والزهو مع انتصار ثورة المليون شهيد في الجزائر بعد قرن ونصف القرن من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي حاول أن يلغي الهوية الوطنية ـ العربية للجزائريين عبر معاملتهم كرعايا من الدرجة الثانية، لا حقوق لهم في وطنهم.
كانت مصر ـ عبد الناصر الداعم والمساند بالسلاح، وكانت الامة العربية بمشرقها ومغربها تواكب هذه الثورة المظفرة في الجزائر: في الشارع والتظاهرات التي كانت تملأ جنبات العواصم العربية ملتفة حول قلادة الثورة جميلة بوحيرد.
وبينما ثورة الجزائر تحتفل بانتصارها وتنتخب احمد بن بله رئيساً لدولة استقلالها تفجرت اليمن بالثورة التي اسقطت الامام احمد حميد الدين وابنه البدر واعلنت الجمهورية، وبعث عبد الناصر بقوات عسكرية لحمايتها من التدخل السعودي.
بعد ذلك ستتوالى الانتفاضات والانقلابات في سوريا والعراق وستذهب وفود “بعثية” تعرض على عبد الناصر الوحدة الثلاثية، لكنه كان قد فقد ثقته بقيادة حزب البعث وظلت جلسات النقاش كلاما بكلام..
ولسوف تدعم السعودية الامام البدر، الذي لجأ اليها بعد سقوط نظام الامامة في اليمن، إلى أن ارتضى الرئيس عبد الناصر التسوية السياسية فقصد إلى السعودية والتقى الملك فيصل واتفق على انهاء الحرب وبقاء الجمهورية في اليمن مع علاقات طبيعية بين القاهرة والرياض..
انهكت حرب اليمن جيش مصر الذي اضطر لان يقاتل في ارض بعيدة لم يسبق أن عرفها، بأوديتها وجبالها وشكيمة مقاتليها من قبل.. وهكذا فان اسرائيل قد افادت من هذا الوضع وشنت الحرب على مصر وسوريا معا، في 5 حزيران / يونيه 1967، وحققت نصراً مدوياً لا تستحقه.
كان على جمال عبد الناصر أن ينكفئ إلى الداخل، مؤقتاً، وان يعيد بناء القوات المسلحة، لتستعيد اهليتها عبر حرب استنزاف استمرت لمدة سنتين، شهدت العديد من المعارك الاختبارية..
عشية الاعداد لتطوير الرد المحدود إلى حرب مفتوحة تفجرت الاوضاع في الاردن عبر تصادم واسع بين المنظمات الفدائية الفلسطينية والعرش الهاشمي في عمان.. وكان على عبد الناصر أن يتدخل بالدعوة إلى قمة طارئة في القاهرة لإيقاف تلك الحرب المكلفة.. وقد انتهت القمة بالخبر المفجع: وفاة جمال عبد الناصر، المنهك بمرضه وبأيام القلق والانهماك في معالجة الوضع لإيقاف المذبحة التي اصابت النضال العربي في الصميم.
مع تولي انور السادات الرئاسة في مصر بديلاً من جمال عبد الناصر بدأ زمن جديد: تراجعت حركة الثورة العربية نتيجة الجراح الخطيرة التي استنزفت حيويتها في مصر، وسوريا والعراق… ولبنان بالضرورة.
ضرب السادات اركان نظام جمال عبد الناصر جميعاً، ثم طرد الخبراء الروس الذين كانوا يدربون الجيش المصري على انواع جديدة من الاسلحة، الصواريخ والطائرات الحربية اساساً، فضلاً عن صفقة الطيران التي عقدتها ليبيا القذافي لحساب مصر عبد الناصر وهيأت لتسلم الجيش المصري طائرات الميراج الحربية..
ولقد عقد السادات اتفاقاً على الحرب مع الرئيس السوري حافظ الاسد،
وبالفعل انطلق الجيشان في وقت معاً عند الساعة الثانية بعد الظهر، من يوم العاشر من اكتوبر (تشرين الاول) 1973 وهو موعد مباغت، فاستعادت القوات المصرية في قفزة بطولية قناة السويس وباشرت التقدم في سيناء مدمرة “خط بارليف” الذي كان العدو الاسرائيلي قد اقامه على الضفة الاخرى لقناة السويس لعرقلة تقدم الجيش المصري، بينما تقدم الجيش السوري في ارض بلاده فحرر هضبة الجولان متقدماً نحو بحيرة طبريا..
ولسوف يفاجأ الجيش المصري باقتحام الاسرائيليين، بقيادة ارييل شارون، خط تقدمهم، واحتلال البحيرات المرة في قلب القناة، ثم التقدم نحو مدن القناة (بور سعيد والاسماعيلية) ثم نحو القاهرة.
كذلك سوف يفاجأ الرئيس السوري حافظ الاسد وجيشه بقبول السادات وقف اطلاق النار، من خلف ظهره وبناء لاتفاق سبق عقده مع وزير خارجية البيت الابيض في عهد ريتشارد نيكسون “اليهودي” هنري كيسنجر (كما قال نيكسون، همساً، للرئيس حافظ الاسد، في دمشق، بعد اقرار اتفاق وقف اطلاق النار..)
سيبدأ “عهد جديد” مختلف عما سبقه في سياق الصراع ـ العربي الاسرائيلي..
فبعد مصر سيتجرأ ملك الاردن الهاشمي حسين بن طلال بن عبدالله بن الشريف حسين، على مصالحة العدو الاسرائيلي، الذي سيقيم سفارة في عمان.
وستتجرأ بعض دول الخليج العربي بعنوان قطر على الاعتراف بإسرائيل واقامة علاقات ومعها..
وسيبادر العدو الاسرائيلي معززاً بالدعم الاميركي و”الانفتاح” العربي إلى توسيع دائرة علاقاته بالمحيط العربي (البحرين، سلطنة عمان، دولة الامارات)
على الضفة الاخرى كان المجاهدون في لبنان يقاتلون لإخراج قوات الاحتلال الاسرائيلي من جنوبه، فيحققون نصراً عظيماً بجلائه فجر يوم 25 ايار 2000.
لكن هذا العدو لن يلبث حتى يشن حرباً مدمرة على لبنان امتدت لشهر كامل (بين 12 تموز / يوليو و13 آب / اغسطس 2006) وانتهت بنصر مؤزر للمقاومة الاسلامية (المدعومة من ايران) وللشعب اللبناني كافة الذي حقق صموداً عظيماً، وتأكدت وحدته الوطنية حيث فتح الاهالي في الجبل وبيروت والشمال والبقاع بيوتهم لاستقبال من طلب النجاة بأطفاله بعد تدمير الضاحية الجنوبية في بيروت والمدن والقرن في جنوب لبنان وبعض البقاع حتى كان النصر المؤزر في 13 اب / اغسطس مع صدور القرار الدولي 1701 الذي طلب وقف الحرب، وخروج القوات الاسرائيلية مدحورة من جنوب لبنان..
اليوم تبقى روح الثورة موارة بالحياة، عبر فلسطين بعنوان غزة هاشم والمناضلين الذين يتلاقى في صفوفهم الاطفال والنساء والشبان والكهول، الذين يقاومون بلحمهم الحي في المسجد الأقصى في القدس وامام كنيسة القيامة، في بيت لحم وسائر مدن الضفة الغربية…
وها هو اليمن يصمد، وسط ركام مدنه وقراه، في حين يشتد الضغط عليه لتقاسمه بين دولة الامارات ذات نصف المليون نسمة (ابو ظبي وضواحيها) ودبي ومشتقاتها و(المشيخات الاخرى)، وبين السعودية التي تفترض أن لها “ثأر بايت” على اليمن التي حاولت احتلالها بحملة عسكرية قادها الامير فيصل بن عبد العزيز، قبل أن يتدخل الملك شخصياً لإنقاذه وعقد معاهدة عدم اعتداء بين البلدين الجارين والمتكارهين منذ زمن.
..وها هي الحرب في سوريا وعليها تقترب من نهاياتها لتترك عاصمة الأمويين شبه مدمرة وشعبها مشرداً في الداخل او في الجوار وصولاً إلى العواصم البعيدة.
..والعراق يحاول ترميم ما بعد عهد الدكتاتورية ممثلاً بصدام حسين ثم الاحتلال الاميركي الذي جرب اطلاق نار الفتنة في ارض الرافدين لكن شعب العراق يحاول استعادة وعيه وبناء مستقبله الافضل.
..وتونس تعيش حيوية سياسية ممتازة ستأخذها نحو غدها، في شوارعها.
والجزائر يسكن شعبها الشارع رفضاً لحكم عاجز، مما اضطر بوتفليقة إلى الاعتزال والخروج بكرسيه المتحرك من الرئاسة، تاركاً السلطة للجيش الذي يماطل في تسليم الحكم إلى صاحبه: الشعب..
أما السودان فقد نجحت الشعبية التي تفجرت ضد حكم الماريشال البشير وعسكره، وها هي تنجح بالتوافق مع الجيش على العودة بالسودان إلى الديمقراطية وتمكين الشعب المناضل والفقير من بناء حياته الجديدة في بلاده الغنية بمواردها الطبيعية وهي ذات النيلين الابيض والازرق..
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!