العالم صغير، حتى أن جرثومة متنقلة أثبت انه “واحد” في وجوده، وان تعددت الانظمة السياسية.
إنه اصغر من جرثومة صغيرة: مثل الكورونا..
وهي جرثومة ترفض العنصرية، والتمييز الطبقي، وتساوي بين الناس جميعاً، لا فرق بين عربي وأعجمي، وبين غني بمليارات الدولارات وفقير لا يجد قوت يومه، بين ملك بقوة النسب المُذَهبْ ورئيس منتخب بقوة سلاح شعبيته..
كذلك فهي “فضائحية” لا يمكن اخفاؤها او التستر عليها.
ولقد افتقد “العرب” تضامن انظمتهم، الملكية منها والجمهورية وحتى الاميرية في مواجهة هذا الوباء الذي لا يرحم، والذي ينتقل بسرعة الهواء بين الصين والولايات المتحدة الاميركية وبين ايران والسعودية.. وبين غرفة النوم وصالون التشريفات.
كل “دولة” واجهت الوباء “باستقلال” عن سائر “الاشقاء”..
هل يدل هذا على انفراط عقد العرب، بدولهم، وضرورة الاعتراف بوفاة جامعة الدول العربية، اخيراً بضربة الاعتراف بالكيان الاسرائيلي والعجز عن وقف “طموح العدو” إلى توسيع “مملكته الصهيونية” طالما ظل الاقوى من مجموع العرب.
دلت جرثومة الكورونا على أن الانسان كائن هش، يتهاوى جبروته وتتلاشى ادعاءاته امام بعوضة او ذبابة تختزن السم في اجنحتها المن هواء.
..وبررت للانفصاليين من قادة العرب، ملوكاً وامراء ورؤساء بمدد مفتوحة اقفال حدودهم امام الاشقاء وكأنهم يحملون، وحدهم ، خطر العدوى.
لا تضامن ولا اتحاد ولا توحد حتى في مواجهة خطر العدوى التي قد تقود إلى الموت: صارت الحدود سدوداً هشة امام هذا الاجتياح الطارئ الذي لم يتحسب له أحد، وهو قد باغت الجميع فافتقدوا الدواء الشافي.
بالمقابل، ثبت أن المنظمات المعنية بصحة الناس، عربياً بالدرجة الأولى ودولياً بالتالي، تنام ملء جفونها وتسترخي إلى افتراض أن الدنيا بألف خير، وان وزارات الصحة في اربع رياح الارض (لا سيما في دنيا العرب) جاهزة ومتيقظة لأي خطر او وباء.. وجاء هذا الكورونا الخبيث يكشف غفلتها، فاذا هي تتخبط خبط عشواء، ولا منقذ الا الدعاء والابتهال إلى الله جل جلاله.
في الحكايات أن الخليفة العادل عمر بن الخطاب كان لا ينام الليل حتى يُنهي جولته المقررة على بيوت الفقراء، يطمئن إلى صحتهم، ينقذ الجائع من جوعه، ويأمر بعلاج من به علة. وانه عندما انتقده بعض صحبه على انه قد اقتطع من القماش المتوفر في مخازن الخلافة أكثر مما ينال غيره، نادى نجله وقال امامه: لقد اعطاني نصيبه لكي يكتمل ثوبي.
وفي الحكايات عن السلف الصالح ايضاً أن الامام علي بن ابي طالب كان لا ينام حتى يطمئن إلى أن الناس قد سكن جوعهم فشبعوا وناموا.. وانه كان يجول ليلاً وقد حمل كيساً من الخبز يرمي منه امام بيوت الفقراء ما يمنع عنهم غائلة الجوع..
وفي الاقوال المأثورة انه ما جاع جائع الا بما أترف الغني به نفسه..
…وها هي امة الفقراء، أي الاكثرية المطلقة من الثلاثمائة مليون عربي، تعاني من الجوع والامراض السارية، بينما اهل النفط والغاز يقيمون، واكثر من مرة يوميا، المائدة العامرة بالخراف المذبوحة واصناف السمك، والدجاج او البط احياناً، بينما الفقراء ينتظرون خلف الابواب، في انتظار أن ترمى اليهم الفضلات الدسمة، فيأكلون حتى التخمة وينطلقون إلى خدمة من اطعمهم ـ بغير رغبة، وبغير قصد ـ ثم … يشكرون الله على نعمه!
إن في الوطن العربي مئات الملايين من الفقراء، ينتشرون بامتداد صحاريه، في المدن والقصبات والقرى، وفي مرابع اللهو، ومخيمات اللاجئين الهاربين من بلادهم المجوعة، إلى حيث يمكنهم العيش فتتوفر لهم اللقمة الحلال، وفراش ينطوون عليه بعد نهارات التعب.
وأهل النفط والغاز من حكام العرب يبيحون ثرواتهم الهائلة للمهيمن الاجنبي (وهو الاميركي في الغالب الاعم وضمنه، بالقطع، المحتل الاسرائيلي..)
أما بقية العرب ممن لم تمن عليهم المقادير بالنفط او بالغاز، فهم يكيفون حياتهم ، ويجهدون ويبذلون عرق الجباه من اجل أن يوفروا لأبنائهم وبناتهم ا لغد الافضل، ولو باعوا كل ما يملكون من اجل حفظ كرامة اجيالهم الجديدة وتأمين مستقبل افضل لهم، يقيهم ذل الحاجة وهدر الكرامة بمد اليد إلى من غادرته مشاعر الانسانية والرفق بإخوته ومساعدة الأخ الشقيق.
صباح يوم الجمعة من كل اسبوع، تحتشد جماهير الفقراء امام قصور الامراء، وفي يدي كل منهم “عريضة”.. ثم يأتي الحرس الملكي ليدخل طابور الفقراء على سمو الامير واحداً اثر الآخر، فيطلق واحدهم شكواه ويسمع صاحب السمو وهو يهز رأسه، ويأتي الحارس فيأخذ الفقير الشاكي إلى خزندار الامير ليعطيه “شرهة” تكفي لإطعامه مع اسرته يوماً او يومين.. ثم يأمر سموه، فيصرف ما تبقى من اهل السؤال، قبل أن يصحب ضيفه إلى دار العز حيث تمتد سفرة تكفي خرفانها والاسماك والمقبلات المتوفرة فيها لإطعام مائة سائل على الاقل..
بعد الأكل يتجشأ سموه فيؤتى له بشراب مهضم..
اما ما تبقى من الطعام الفاخر فيُرمى حيث يمكن للفقراء وابناء السبيل أن يأتوا ليأخذ كل منهم له، ولأسرته، نصيب من هذا الطعام المشتهى فيقدمه لأطفاله، قبل أن يتجشأ حامداً الله على نعمه.
لا يمكن القبول بهذا الانقسام “الطبقي” المريع في الامة:
من لا يعملون ولا يبذلون أي جهد، ولا يتصبب عرق التعب من جباههم، يحصلون على ما يفوق حاجتهم مئات المرات، بل ألوفها..
بينما من يتعب ويشقى ويتصبب العرق من جبينه غزيراً من اجل أن يؤمن السكن والمدرسة والطعام لأسرته، لا يجد ما يكفيه ويوفر الشبع والكفاية لعائلته..
ولو أن هذه الثروات المتراكمة قد بنيت بعرق الجهد والتعب، لحق لأصحابها أن يتمتعوا بها وان ينفقوها كما يشاؤون..
اما وانه “القدر” فلا بد من التدخل لتعديل المسار وتحقيق الانصاف، فقد خلق الله الانسان من علق، وجعل الناس متساوين كأصابع الكف، وقال سبحانه: “وأن ليس للإنسان الا ما سعى..”
والنفط ليس نتيجة سعي اهله، بل هو “هبة” إلهية تنتظر عدالة من جاءتهم بلا تعب لكي يستحقوها..
والله هو الرزاق، وهو المانح العاطي، .. ولكن ما كل ما يمنحهم ويعطيهم يتقون الله في شعوبهم وفي امتهم، بل انهم السفهاء.
…وأن ليس للإنسان الا ما سعى!
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية