أعترف، منذ الكلمة الأولى، انني قريب من هذه الجمعية إلى حد التعصب.
وأفخر انني واكبت، شخصياً، كما في “السفير” مسيرتها على امتداد عمر “السفير”،
ليس أكثر من الجمعيات والهيئات والمؤسسات التي تتصدى لمهمات اجتماعية وثقافية وصولاً إلى رعاية الأيتام.. ونحن منهم!
ولكنني ولأسباب عدة، بينها نجاح جميل ابراهيم في اضافة مسحة من الجمال على بيروت القائمة من تحت الأنقاض، وبينها نجاح علي اسماعيل في أن يُكون أهم شبكة علاقات عامة، وبينها أن مجموعة المؤسسين والعاملين في هذه الجمعية هم من الاصدقاء الذين يعطون من وقتهم مكتفين ـ كمقابل ـ برحمة الله وغفرانه.. واسباب أخرى فيها الشخصي والعام، أرى نفسي في هذه الجمعية ومنها.
من هنا فما يزيدني شرفاً أن تقيم جمعية التخصص والتوجيه العلمي هذا الحفل التكريمي الذي جمع من حول “السفير” في عيدها، نخبة من رجالات البلاد الذين قدموا جهدهم وكفاءاتهم لخدمة مجتمعهم.
وبوصفي بعلبكياً فإنني أغبط اهلنا في الجنوب على وعيهم وتكريس بعض الجهد لخدمة الشباب ورفع مستوى كفاءاتهم بالتخصصات العلمية كالطب والهندسة والصيدلة في لبنان والخارج، وأتمنى أن تنتقل الينا العدوى في بلاد بعلبك لتتبدل الصورة المأخوذة عنا، وهي ظالمة ومؤذية، فضلاً عن انها غير صحيحة، او غير دقيقة ومجتزأة ولكنها تصيب بأضرارها الجميع.
أيها الاصدقاء،
لولا معاندة الظروف سياسياً بالأساس، ومادياً بالتالي، لكان اليوم عيداً، ولكنا نحتفل الآن ببلوغ “السفير” عامها الرابع والأربعين..
على اننا نشعر براحة ضمير غامرة: لقد أدينا واجبنا على أكمل وجه، ضمن قدراتنا، وتركنا مثالاً نادراً للإخلاص في خدمة شعبنا وامتنا ونصرة قضايانا العادلة، وعشنا النجاح المبهج منذ العدد الاول وحتى العدد الأخير، وتركنا علامة فارقة على طريق مهنة المتاعب، نأمل أن يهتدي بها الآخرون.
ولقد كلفنا هذا الموقف المبدئي الثابت الكثير الكثير، ولست بحاجة إلى الشرح، فلقد كنتم معنا ونحن نواجه الموت والنسف والتهجير والمصادرة والمنع والحرب بالإعلان والمحاكمة على الموقف الصح التي كانت اشبه بمحاكمة للشعب اللبناني كله وهو الرافض أي تطبيع مع العدو الإسرائيلي.
ولقد أكد شعبنا العظيم موقفه الوطني ـ القومي هذا، على الارض، على امتداد المواجهة التي فرضها العدو عليه، منذ احتلاله فلسطين المقدسة وحتى اليوم..
واذا كانت البداية في ايلول 1972 فالمقاومة قد استمرت حتى التحرير الكامل في العام 2000 على الطريق، كانت ملحمة الصمود مواجهة الاجتياح صيف العام 1982، ثم في مواجهة حكم الانحراف الذي عقد اتفاق العار في 17 أيار 1983 حتى اسقاطه في مثل هذه الايام من العام 1984.. ولقد بشرت “السفير” بالمقاومة بكل مجاهديها تحت عنوان “جنوباً در، جنوباً سر، وانتصر”.. ثم واكبناها بينما هي تتوالد فصائل متعددة الشعار موحدة الهدف، تضرب العدو في تحصيناته ومدرعاته وجنوده على امتداد مساحة احتلاله بين البقاع الغربي وأقصى جنوب جبل عامل، عند الحدود مع فلسطين، وقد جمعت فصائلها نخبة من شبابنا وشاباتنا للمقاومة، قبل أن يندفع “حزب الله” بمجاهديه فيطارد المحتل ويُجبره على الجلاء قبل سبعة عشر عاماً الا قليلاً (في 25 أيار العام 2000)… ثم يدحر الحرب الاسرائيلية الباغية على لبنان صيف العام 2006.
ومن مفاخر “السفير” انها كانت، وحتى يومها الأخير، صوت المقاومة المجاهدة ومنبرها، وليس في لبنان وحده بل كذلك في ارض فلسطين المحتلة، بالضفة وغزة، وفي العراق حين اجتاحته الجيوش الاميركية مموهة بالمشاركة العربية فاحتلته ودمرت دولته بذريعة القضاء على صدام حسين، وفي اليمن حين تعرض للغزو الشقيق، وفي ليبيا حين دمرتها المصالح الاجنبية بذريعة التخلص من معمر القدافي..
وها هو نصف الوطن العربي، إذا ما تذكرنا الحرب في سوريا وعليها، يتعرض لأعظم عملية تدمير منهجي لعواصم الحضارة الانسانية فيه وعملية ابادة لشعوبه التي كانت تكدح لبناء غدها الافضل.
أيها الاصدقاء،
كانت “السفير” صوت الذين لا صوت لهم، جريدة الوطن العربي في لبنان ـ جريدة لبنان في الوطن العربي… ولقد نجحت في أن تكون، بموقفها الواضح كما بمهنيتها العالية، وبتأثيرها المعنوي نتيجة تحررها من أي ارتباط او ارتهان حكومي او فئوي، واحدة من أخطر الصحف في الوطن العربي.
ولقد جمعت في اسرة تحريرها صحافيين كباراً في تاريخهم، وفتحت صفحاتها لأصحاب الرأي والمثقفين كتاباً وشعراء وبحاثة، فكتب فيها ولها بعض اهم المبدعين العرب… وأطلقت أخطر رسام كاريكاتور في الوطن العربي ناجي العلي. وتحدت الرقابة كما القرار الظالم بتعطيلها وسط موجة تعاطف مشهودة رافقنا فيها إلى المحكمة أكثر من خمسمائة محامٍ متطوع يمثلون مختلف ألوان الطيف، سياسياً واجتماعياً وثقافياً في لبنان.
أيها الاصدقاء،
لقد حققت “السفير” نجاحها بفضل خطها السياسي واتقانها المهني واخلاصها لرسـالتها الوطنية ـ القومية ـ التقدمية، وحربها الشعواء على الطائفية والمذهبية وذريتهما الصالحة من فساد وتعصب وكراهية.
بل انها قد حققت نجاحها بفضلكم، وأمثالكم، من القراء الاوفياء، الواعين والذين يقاتلهم النظام الطوائفي بوطنيتهم، مثل العدو ومعه وبعده.
كان الناس، الناس الطبيعيون، أي الوطنيون بالسليقة، الطامحون إلى مستقبل أفضل، الذين يحترمون الرأي والرأي الآخر وحق الاختلاف، المؤمنون بلبنان وطناً يستحق دولة لا ينهشها الفساد، يعتز بهويته ويؤمن بوحدة المصير مع امته العربية..
كان هؤلاء جميعاً جمهور “السفير” ومصدر قوتها وثباتها على خطها برغم الصعاب وحرب الاعلانات والمنع (لمدة 12 سنة بقيت “السفير” جريدة صباحية في بيروت مسائية في طرابلس والشمال..) والمصادرة ومحاولات الاغتيال والنسف، نسف البيت والمطابع والمكتب وأكثر من مرة.
أيها الاصدقاء،
لا اريد تحويل هذا اللقاء الكريم الذي وفرته لنا جمعية التخصص والتوجيه العلمي إلى سرادق عزاء ومجلس تعزية.
فما قدمته “السفير” لأهلها، في لبنان وخارجه، هو واجب مهني ووطني وقومي، كما انه مصدر اعتزاز لي ولكل من شاركني في اصدار “السفير”، على امتداد اربعة واربعين عاماً الا قليلاً.
وأعود إلى هذه الجمعية التي تكرم ” السفير” بوجودكم معنا فأقول انني اعرف انها قد عانت ازمة مفتوحة، لكنها انتصرت عليها واستمرت وتعاظم دورها، بفضل اخلاص اهلها وحرصهم على رسالتها.
وها هي بعد حوالي نصف قرن من اقامتها على أيدي بعض المخلصين لمجتمعهم الطامحين إلى نشر النور وتشجيع المتفوقين من الطلاب الفقراء الذين لا يستطيعون اكمال دراساتهم العليا، تزهو الآن بأنها قد خرجت ثلاثة آلاف طالب في الطب والهندسة والصيدلة في جامعات لبنان والخارج..
بالمقابل فإنها ترعى حوالي 13 ألف يتيم في منازلهم.
وتضم واحة علي حجازي لرعاية المسن، ونادياً للخريجين ومنبراً ثقافياً وهيئة شبابية.
ولا يبقى الا أن اشكر هذه الجمعية الرائدة بمؤسسيها وهيئتها الادارية واعضائها ومؤسساتها جميعاً، وأخص بالذكر الرئيس الصديق جميل ابراهيم، والمايسترو علي اسماعيل، وسائر اعضاء الهيئة الادارية والجمعية العمومية وسائر الانصار.
أما الاخوة المتحدثون الذين غمروني بتقديرهم لـ”السفير” ودورها في خدمة وطنها وامتها، فلهم تقديري واكباري، وكلهم صديق ورفيق سلاح.. وكل كلمة تقدير قالوها في حق “السفير” وحقي يستحقون مني أكثر منها، فشكراً لهم وسنبقى معاً تجمعنا روح “السفير” التي طالما جمعتنا بموقفها الذي لم يتغير فيها ولا فيكم.
مع خالص التقدير لمن جاء يمثل دولة الرئيس نبيه بري الأستاذ علي عسيران، والوزير الصديق زميلنا دائماً نهاد المشنوق، وكل من حضر فاسعدنا بمشاركته.
حفظكم الله جميعاً ورعاكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في الاحتفال التكريمي الذي اقامته جمعية التخصص والتوجيه العلمي في 2017/3/23