… وماذا عنا؟!
ماذا عنا في لبنان؟ وماذا عن العرب في مواجهة التطور الجديد الذي تعكسه نتائج الانتخابات الإسرائيلية؟!
لقد كاد اللبنانيون وسائر العرب ينقسمون إلى »أكثرية باراكية« و»أقلية نتنياهوية«، وكأن الأول »عدناني« والثاني »قحطاني«، أو كأنما كان للعرب عموما تأثير جدي، بمعنى أن الإسرائيليين اختاروا »قائدهم« الجديد في ضوء الموقف العربي أو تحت ضغط الخوف منهم أو طلباً لرضاهم!
على الصعيد الإعلامي تصرف العرب وكأنهم »الطرف الأساسي« في الانتخابات، أو بالأحرى كأنما هذه الانتخابات بذاتها من الخطورة بحيث ستقرر لهم مصائرهم، وعندما أعلنت النتائج (المتوقعة) كادوا يطيرون من الفرحة، وكادت المذيعات يطلقن الزغاريد بينما المعلقون والمحللون ينتظمون في حلقات الدبكة والرقص بالسيف (الذي لم تعد له من وظيفة غير هذه).
ولأن السلاطين أكثر تحفظا من الاعلاميين فقد اكتفوا بتوجيه »التمنيات« والإلماح الى ثقتهم »بوطنية« إيهود باراك وبحكمته وبشجاعته التي ستمكنه مجتمعة من تحقيق مطامح الإسرائيليين إلى »السلام«… بوصفه طريق الخلاص، والممر الإجباري لإعادة توحيد »المجتمع« الذي كاد غرور نتنياهو يقوده إلى حرب أهلية!
على أن »المعلقين« العرب، وسواء أكانوا سلاطين أم إعلاميين، لم يتحدثوا كثيراً عن أوضاعنا نحن، وكيف ستتلقى هذه »الصدمة« ولو مفرحة!! وكيف ستواجه تظاهرة التأييد العالمية الواسعة ل»نابليون الصغير« الذي لم يشتهر عنه الاعتدال وما كان ليحظى بهذه السمعة الطيبة كرجل سلام إلا لأنه كان في مواجهة من وصل في التطرف إلى أقصاه وفي استفزاز العالم، وبما في ذلك الحليف الأكبر، الأميركي، بحيث صار مجرد التخلص منه انتصارا كبيرا لإسرائيل وحلفائها وأصدقائها أجمعين في الغرب والشرق وصولاً إلى العرب الميامين وجموع المسلمين المتلهفين لأن يقولوا »… وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته«.
من قبل أن يعلن باراك برنامجا يخفف من حدة طرحه كمرشح لم يتورع عن المزايدة على نتنياهو، في ما هو جوهري بالنسبة للفلسطينيين وللبنانيين والسوريين،
ومن قبل أن يستكمل باراك المعركة الصعبة لنسج تحالفات مع القوى الفائزة مثله، وبأكثر من حزبه، في الانتخابات، بما يظهِّر صورة حكومته المقبلة التي لن تجيء حاملة غصن الزيتون، والتي لن تسلِّم قطعا لا بالدولة الفلسطينية (والقدس؟!) ولا بالانسحاب غير المشروط من لبنان (برغم كل الادعاءات والأكاذيب الرائجة عفواً أو المروجة قصداً) ولا خاصة »بالعودة إلى حدود الرابع من حزيران 1967« مع السوريين،
ومن قبل أن تتبلور خريطة الحركة للحكومة الإسرائيلية العتيدة التي تواجه تركيبا معقدا في كنيست مختلف تماما عن سابقيه،
من قبل هذا كله انطلق المبشرون العرب يحددون مواعيد »نهائية« ليس لاستئناف المفاوضات بل لاعلان نتائجها الطيبة والمحققة لجميع الأماني بل الأوهام العربية حول »سلام مجاني« لن يكلفهم أكثر من الموافقة على حق إسرائيل في العيش مع جيرانها بسلام!
لقد هنّأت الإدارة الأميركية نفسها لأنها استطاعت التخلص من »الطاووس« الذي هددها بإحراق واشنطن عليها (وهذا حقها)، ورحبت بنجاح من دعمته من قادة إسرائيل (وهذا أيضا حقها)، ولكنها لم تصل في التهليل لباراك وكأنه »بطل السلام« الى ما وصل إليه بعض العرب،
كذلك رحب معظم القادة الأوروبيين بفوز باراك على نتنياهو الذي كان قد أهانهم علنا أكثر من مرة، مفترضين أن الإسرائيليين قد استعادوا شيئا من الوعي بمصالحهم فاختاروا »العاقل على تطرف« بدلاً من »المتطرف بغير عقل«،
على أن الترحيب ظل مشروطا بالعمل على إحياء العملية السلمية، وهو وصل على لسان فرنسا إلى ضرورة الحذر من الإغراق في التفاؤل وكأن وصول باراك بحد ذاته هو… السلام!
فأما سوريا فهي، وإن كانت أبدت ارتياحها لسقوط أقصى التطرف في إسرائيل فإنها علقت موقفها من باراك على ما سوف يطرحه كبرنامج لحكومته، ولم تجد نفسها معنية بالترحيب، وإن كانت قد جددت التوكيد على موقفها الثابت والمعروف.
وأما نحن في لبنان، فمع وضوح الموقف المبدئي، إلا أنه لا بد من النظر إلى الوضع السياسي الداخلي، والتدقيق في مدى صلابته، وفي قدرته على مواجهة المناورات المعلنة، تقريبا، وربما على مواجهة »امتحانات بالنار« فوق مسرح العمليات الذي سيحمل عنوان »الانسحاب من لبنان خلال سنة«.
لا يكفي الموقف المبدئي. لا بد من تدعيمه وتصليبه وحمايته بالتفاف سياسي شامل أو شبه شامل، خصوصا وأن العهد يكاد يكون بلا أعداء، بل وبلا خصوم الى حد كبير (إذا ما استثنينا تلك القلة من أصحاب المراهنات الخاسرة الذين يعيشون خارج الوطن وخارج الذاكرة وخارج التاريخ)..
لا بد من خطاب مختلف، يفصل بين ضرورة محاسبة المرتكبين وهادري المال العام، وبين ضرورة رص الصفوف وتعزيز الموقف الرسمي بأوسع التفاف شعبي ممكن،
لا بد من التنبه لخطر الحساسيات المذهبية التي أثارتها أخطاء بعض السياسيين، والتصدي لمحاصرتها وعلاجها حتى لا تشكل غداً عبئاً على المواجهة التي ستكون قاسية مع باراك الذي يبقى »عدواً«، ولو صدقنا الشائعات عن »اعتداله«، ودائماً بالقياس الى نتنياهو.
فأما سائر العرب فإن المقدمات لا تبشر بكثير من الخير،
ولا يستغربن أحد إذا ما تصرف العديد من حكامهم، غداً، وكأن إسرائيل قد انقلبت الى »دولة شقيقة« أو إلى »حليف استراتيجي« لمجرد أن الوحش الأسطوري المسمى نتنياهو كان قد حرفها لوحده عن مسار السلام!!
لقد تبدلت معطيات كثيرة في الواقع الإسرائيلي، كما تدل نتائج انتخاباتها،
لكن هذه التبدلات لم تتم نتيجة لجهد عربي، ولا هي قد نقلت إسرائيل من حال إلى حال وجعلتها تغادر طبيعتها وبديهيات وجودها… في مواجهة العرب.
وفي انتظار امتحان جديد لاحتمال تلاق عربي ولو على قاعدة الحد الأدنى، سواء بقمة أم بعدد من القمم المصغرة، لتعزيز الصمود في مواجهة »نابليون الصغير« وحكومته التي ستضم العديد من النتنياهويين، فلا بد من أن نلتفت إلى الداخل، في ضوء التطور الخطير الجديد.
إن عهدا جديدا يبدأ في إسرائيل، ولكنه لا يقطع مع من قبله، ولا يرفض سياستهم بالمطلق، حتى وهو يتباهى بأنه قد سحقهم انتخابيا، ولكنه يحاول تكتيل قاعدة عريضة من التحالفات التي تضم مختلف التلاوين السياسية (أين منها التلاوين اللبنانية الهشة) لمواجهة.. من تبقى من العرب!
إن باراك يتصرف وكأنه ذاهب الى الحرب غداً، بإسرائيل موحدة أو شبه موحدة، لأنه يفهم »السلام« انتصارا سياسيا لا يقل أهمية عن النصر العسكري الساحق،
وعلينا أن نستعد لاحتمالات »السلام الموعود« ؟! وكأنها حرب جديدة، بل »الحرب« الأقسى.
وهذا واجبنا تجاه أنفسنا، كما تجاه حامي صمودنا الشقيق السوري، وتجاه سائر الأشقاء العرب بمن فيهم أولئك الذين يتصرفون وكأن لم يكن لهم في إسرائيل من عدو إلا بنيامين نتنياهو وان هازمه هو بطلهم الجديد »باراك الدين الأيوبي«!