لأن المصالح تحكم السياسات، ولأن فترة التجارب والامتحانات قد تخطت حواجز الماضي المثقل بالأخطاء وسوء الفهم أو سوء التقدير، فإن الرئيس السوري بشار الأسد يذهب إلى فرنسا مطمئناً سلفاً إلى النتائج الإيجابية لهذه الزيارة المفيدة للداعي كما للضيف… وهي زيارة ستكون لها أصداؤها الأوروبية هناك والعربية هنا، مع تمييز خاص لدور لبنان الذي لا يمكن اعتباره خارج هذا الحدث، واستطراداً خارج جدول أعمال قيادتي الدولتين الساعيتين إلى تطوير نوعي للعلاقات بينهما.
الحاضر ليس مجرد امتداد للماضي، وفرنسا الاحتلال والانتداب صارت صفحات من التاريخ، و»ميسلون« ليست محطة للنسيان، ولكنها ليست صورة المستقبل.
لم تعد فرنسا بحاجة إلى »مترجم« لبناني مع سوريا، ولا هي مضطرة بعد لأن تسلك »الخط العسكري« السوري للوصول إلى بيروت.
لقد فرض الواقع نفسه على الأطراف جميعا، وأدت التجارب إلى إعادة صياغة العلاقات بما يتناسب مع المصالح المشتركة، وهي متداخلة حكما، في الاقتصاد كما في الثقافة، وفي التطلع إلى تعاون أوسع لأن الجميع يحتاجونه.
ولقد كان الرئيس السوري صريحا ودقيقا في إجابته على الأسئلة التي طرحتها عليه فرنسا، بلسان صحافتها، فلا هو استذكر مرارات الماضي ولا هو طالب مضيفيه بما يتجاوز طاقتهم في العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية، أو يلقي عليهم بالواجبات العربية في الصراع العربي الإسرائيلي.
إن فرنسا المميزة عربيا، وفي معظم هذه الأرض الواسعة، قد حظيت بمكانة الدولة الأكثر رعاية، وانطلاقا من تفهمها لمطالبهم السياسية ولحرصهم على كرامتهم… فالعرب يحفظون لفرنسا الديغولية موقفها الشجاع من حرب 1967 الإسرائيلية، بعد خروجها من الجزائر بعد حرب استعمارية ظالمة، مما أنساهم مواقف عدائية سابقة بلغت ذروتها بالعدوان الثلاثي على مصر في العام 1956.
وعلى امتداد الثلاثين عاما الأخيرة ظل العرب يردون على الرغبة الفرنسية بالتعاون بمزيد من التعاون، ويمكن هنا أن نلحظ النمو المتعاظم لحجم الصادرات الفرنسية إلى الأقطار العربية، عسكرية ومدنية، ولوجوه التعاون متعدد المجالات… كذلك فإن الجوائز السياسية العربية للسياسة الفرنسية لم تكن أقل قيمة أو مردودا.
لقد طالما رغب العرب عموما، وسوريا ومعها لبنان بشكل خاص، في أن تلعب أوروبا ككل، وفرنسا على وجه التحديد، دور »الشريك« السياسي، ولو »الأصغر« للولايات المتحدة الأميركية في »العملية السلمية«.. وعشية مؤتمر مدريد سعى العرب بكل طاقاتهم إلى مثل هذا الهدف. لكن أوروبا، بشرقها السوفياتي المتهالك آنذاك، وغربها المتعثر على الطريق إلى وحدته، ظلت عاجزة عن لعب دور مؤثر، وارتضت موقع »ضيف الشرف« و»ناقل الرسائل« و»معقب المعاملات« وأحيانا »المترجم« فحسب للطلبات العربية.
وإذا كانت فرنسا قد نجحت في أن تقترب نسبيا من العرب بغير أن تذهب إلى الحرب مع إسرائيل، فإنها لم تنجح إلا مرة في انتزاع الإقرار بدور خاص لها (ولأوروبا) في الصراع في المنطقة، وذلك بإدخالها إلى »لجنة تفاهم نيسان« نتيجة الإصرار السوري اللبناني وبفضل الصمود العظيم للبنان المقاوم في وجه الاجتياح الإسرائيلي بالنار ومجازره التي عنوانها »قانا« وما أثاره من حرج أميركي في نيسان 1996.
في أي حال فلقد أعفى الرئيس إميل لحود، خلال زيارته الرسمية لفرنسا قبل شهر تقريبا، الرئيس السوري بشار الأسد من بعض وجوه الحرج التي كان معرّضاً لأن يواجهها… ذلك أن الرئيس اللبناني قد رفع إلى الذروة سقف الموقف السياسي اللبناني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وما ترتب عليه من نتائج، ليس أبسطها بقاء جنده في مزارع شبعا وبقاء طيرانه في السماء اللبنانية وبوارجه في المياه الإقليمية اللبنانية.
على هذا فمن المؤكد أن تنجح هذه الزيارة الأولى للرئيس السوري الشاب الى فرنسا، لأن لا أوهام حولها لا لدى الضيف ولا لدى المضيف. ولأن الأرقام ستكون محورها، في مختلف وجوه التعاون الاقتصادي والثقافي والتقني، باعتبار ان الموقف السياسي لكل طرف محدد وليس قابلاً للتبدل بغض النظر عن الرغبات.
لقد باتت العلاقات بين سوريا وفرنسا أمتن من أن تهددها أو تؤثر عليها بالسلب تظاهرة أو مقالة في صحيفة أو تصريح انفعالي لمسؤول لم يقدر خطورة الموقف في فلسطين، كما حدث من رئيس حكومة فرنسا ليونيل جوسبان وله مع طلاب جامعة بيرزيت قبل عام أو يزيد.
وإذا كان لبنان، بشخص الرئيس رفيق الحريري، قد لعب في البدايات دورا طيبا في شرح موقف كل طرف للآخر، تمهيدا لخطوات التعاون الأولى، فإن رئيس الجمهورية قد أسقط كل الأوهام حول علاقة لبنانية فرنسية من خلف ظهر سوريا أو على حسابها، وهكذا صارت العلاقات ثلاثية بالضرورة، كائنا من كان الضيف في باريس.
فالمصالح تحكم، خصوصا متى كانت المواقف محددة ولا مجال فيها للالتباس أو سوء الترجمة.
ومؤكد أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك لن يطرح على الرئيس السوري بشار الأسد السؤال الذي طرحه الرئيس الفرنسي الأسبق على أبيه الراحل حافظ الأسد حين زار باريس في العام 1975، والذي كان مضمونه: »سهل علينا التفاهم مع اللبنانيين الذين يتكلمون الفرنسية مثلنا، ولكن، بأي لغة تتفاهمون أنتم السوريون الذين لا تتقنون الفرنسية مع اللبنانيين«؟!
… والرئيس السوري سيكون، غدا، أحد ضيوف مؤتمر الفرانكوفونية المقرر عقده في بيروت.
انها زيارة عربية لأوروبا، حتى لو كانت نتائجها المباشرة سورية فرنسية. ولبنان طرف ثالث فيها، سواء عند الحديث عن المصالح أو عند تحديد المواقف.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان