الشهادة ميلاد جديد.
وبشهادة السيد عباس الموسوي “البعلبكي” ولد “حزب الله” في لبنان ولادة جديدة معطرة بالنجيع المضمخ بعطر زهر الليمون… الجنوبي.
لقد أعاد السيد عباس الموسوي باستشهاده تاسيس “حزب الله” موفراً له الفرصة التاريخية للظهور في الصورة التي يجب أن يراه الناس عليها: مرجعهم وقدوتهم في الدنيا قبل أن يكون مرشدهم إلى السماء.
وبامتداد الأسبوع الماضي كانت قوافل المباركين باستشهاد الأمين العام لـ “حزب الله” التي اكتشفت بلدة “النبي شيت” في شرقي بعلبك، تعطي لهذا الحزب مشروعية استثنائية، وتعلن قبولها به واعترافها بجدارته بالطرح المتميز الذي تزخر به أدبياته وقبلها وممارسات قيادييه وأعضائه ومناصريه.
لم يكن تشييعاً لقائد كبير، ذلك الذي جرى، ولا كانت “عاشوراء” جديدة. كان الجمهور يعلن فعل إيمان بالمقاومة، ويؤكد رفضه القهر الإسرائيلي واعتزازه بالشهادة طريقاً إلى التحرير: لقد أنقذوا كرامتنا وعزتنا وهويتنا.
غاب الحزن، وتبلورت العاطفة الجياشة موقفاً صلباً كصوان جبل عامل.
بالشهادة ارتقى “الشخص” إلى “نموذج”، واكتسب “المنصب” أهمية استثنائية لم تكن له في أي يوم، وتبدى “الحزب” في صورة أكثر إنسانية وأعظم ارتباطاً بالأرض وأهلها مما كان على امتداد تاريخه المثير.
مرة أخرى تثبت سلامة الحس الشعبي العام: فالذين شاركوا في وداع عباس الموسوي كانوا يقولون “لا” مدوية لإسرائيل و”نعم” مدوية للمقاومة، ويعلنون رفضهم لـ “البنادرة” وكل الزاحفين على بطونهم لمصالحة “العدو” بشروطه ويتوسطون لدى واشنطن كي تعطيه (من أموالهم) فيرضى!
لكأنها مشاركة فعلية في المعركة، ولكأن جبهة مواجهة الاحتلال قد امتدت من كفرا وياطر إلى أقصى الشمال في لبنان، وإلى أعلى ذرى الجبل، وإلى كل بقاع البقاع إضافة إلى بيروت التي احترقت ولم ترفع الأعلام البيضاء.
ولقد تخطت المشاركة حدود “المناسبة الاجتماعية”، كما كسرت حواجز الطوائف والمذاهب ، فإذا هي تتجاوز “الشيعية” وحتى “الإسلامية” متجلية في موقف وطني – قومي وأممي، واضح الدلالات والمعاني.
لقد أعطى السيد عباس الموسوي لبنان دمه ودم رفيقه عمره وأصغر أبنائه، لكنه أعطى “حزب الله” شهيداً إضافة نوعية ممتازة إلى ما أعطاه في حياته: لقد وفر له المناسبة التاريخية المثلى لكي يظهر بصورته الأصلية، وبحجمه الفعلي وبشبكة علاقاته الواسعة والمؤثرة.
لم يعد “حزب الله”، حتى في عيون خصومه ومناهضيه، “جالية إيرانية” في لبنان. ولا هو، الآن، تنظيم جهوي أو مذهبي أو طائفي، حتى لو طغت على صورته بعض ملامح النشأة ومصادر الاسترشاد وهي أساساً الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني.
إنه واحد من الأحزاب السياسية القوية والمهمة في لبنان والمنطقة العربية، لا يمكن أحد أن يتجاهله أو يتعامل معه وكأنه “فورة عاطفية” أو مجرد امتداد لتنظيم في الخارج لا جذور له في الداخل.
ولقد سبقت الصحافة الأجنبية (وبطبيعة الحال أجهزة المخابرات الأجنبية) بعض القوى والمراجع المحلية والعربية إلى “أكتشاف” هذا الحزب الذي ينمو منذ بعض سنوات ويمتد ويتجذر في الواقع السياسي، مدركاً ومستفيداً من المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تهز جنبات هذا الكيان ونظامه الفريد.
الآن، وبعد أسبوع من استشهاده يبدو أن السيد عباس الموسوي قد أنجز مهمته: صالح “الحزب” مع جمهوره ومع واقع البلاد، ثم قدم بدمه وأسرته القدوة الصالحة وحدد الطريق إلى الله… إنها المقاومة للمحتل على الأرض ولسائر الظالمين في الداخل والخارج.
و”حزب الله” أقوى بدم الشهيد وصمود المقاتل ومصداقية الممارسة مع الخطاب السياسي منه بكل إمكاناته المادية والتنظيمية وهي كثيرة بل إنها خطيرة.
2 – المفاوضات أهم من الموضوع؟!
يكاد بعض كبراء “العرب” يخرجون عن وقارهم فيزغردون فرحاً بانعقاد الجولة الثالثة من المفاوضات المباشرة مع “العدو” الإسرائيلي، اليوم، في واشنطن.
لقد تم تجاوز الفعل الشنيع في موسكو، إذن، حين حضر من لا يملك فأعطى لمن لا يستحقن في غياب أخيه صاحب الحق الشرعي في الأرض وشروط حياته فوقها.
لكأن المفاوضات صارت أهم من موضوعها.
لكأن الانعقاد أهم من النتائج،
إذ يتصرف “معظم” العرب وكأن الجلوس إلى “عدوهم”، مجرد الجلوس، تحت الرعاية الأميركية، هو هو النصر، ويتزاحمون على إظهار عميق التزامهم بالمفاوضات وكأنها واجب مقدس، وإصرارهم عليها وكأنها – بذاتها – الغاية والهدف المنشود وأداة التحرير لكامل التراب المحتل!
وهم من أجل انعقادها دفعوا ويدفعون الكثير من كرامتهم ومن حقوقهم في أرضهم ومن خيرات هذه الأرض ومن جدارة الأجيال الآتية وأهليتها لأن تعوض ما تسببوا في خسارته.
أما إسرائيل فتحاول (وتنجح!!) أن “تقبض” ثمن قبولها بمبدأ المفاوضات ، ثم بانعقاد جلساتها، ثم بمكان الجللسات، ثم بكل سطر من جدول الأعمال العبثي… وهي “تقبض”: مزيداً من التنازلات عربياً، ومزيداً من المساعدات أميركياً، ومزيداً من “الشرعية” والاعتراف باحتلالها دولياً. وهي تستنفر العالم ضد هؤلاء العرب العاجزين عن الحرب، المختلفين في ما بينهم على “السلام” والذين يثقلون على المجتمع الدولي بتخلفهم وقصورهم واقتتالهم ومطالبهم غير المعقولة ثم … بتحكمهم في أعظم ثروات الدنيا التي يبذرونها بسفه يسيء إلى كرامة الإنسان في كل أرض!
لكأن المفاوضات أهم من موضوعها، وانعقادها أهم من النتائج،
وفي ظل هذا “المنطق” العجيب تتوالى الانتكاسات: فبين كل جولة وأخرى تتقدم إسرائيل خطوة على طريق “تشريع” احتلالها، ويتراجع العرب مسافة إضافية عن الحد الأدنى الذي كانوا قد سلموا به مرغمين.
وإسرائيل تتعامل مع “المفاوضات” باعتبارها الحرب، وهي لذلك تقاتل على الجبهات كافة وتوظف كل مكسب تحققه في الجبهة الرخوة أو الضعيفة أو المستسلمة أصلاً، للوي ذراع المتمسك بحقه في أرضه،
والتكتيك الإسرائيلي معلن وغير مموه:
*في لبنان (ومعه) – تحاول أن تقضي على المقاومة، تارة باستعداء السلطة عليها، وطوراً باستعداء الأميركيين على المقاومة والسلطة معاً، ودائماً بمحاولة إحداث وقيعة بين اللبناني والسوري وضرب العلاقة المميزة بين البلدين التوأمين.
وعبر “الاجتياح الصغير” الذي شنته قوات الاحتلال خلال الأسبوع الماضي على الجنوب، كانت إسرائيل تحاول فرض منطق اتفاق 17 أيار السيء الذكر على لبنان، بديلاً من منطقه في المفاوضات القائم على المطالبة بتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 425.
لقد قامت علناً، وجهاراً نهاراً، باغتيار أمين عام “حزب الله”، السيد عباس الموسوي، مستخدمة طيرانها الحربي، من دون أن يعترض على مسلكها – كدولة!! – أحد في العالم. وهي عملية لا سابق لها إلا تلك التي نفذها الطيران الحربي الأميركي ضد معمر القذافي قبل ست سنوات.
ثم إنها تحاول، يومياً، استخدام “حق المطاردة”، وهو “الحق” الذي أعطاه الأميركيون لأنفسهم خلال حربهم ضد شعب فيتنام في السبعينيات… للاحتلال الحق في القتل ونسف البيوت ومصادرة الأراضي وطرد الأهالي من قراهم و”فبركة” جيش عميل له يشاغب على السلطة الشرعية، أما المحتلة أرضه فمن حقه فقط أن يوقع صلحاً منفرداً بشروط الاحتلال!
*في فلسطين – تمارس إسرائيل ضغطاً يومياً لفسخ “الخارج” عن الداخل”، ثم لتفسيخ “الداخل” وتحاول استغلال “التخلي العربي” عن الفلسطينيين فتستعديهم على العرب وتمكن لشعورهم بالعزلة والتوحد، حتى يسلموا بأقسى شروطها في “الإدارة المدنية” التي تعني إسقاط هويتهم الوطنية وانتماءهم إلى أرضهم وانتماء أرضهم إليهم.
إنها تضغط بـ “العرب” على الفلسطيني، وعلى السوري، وعلى اللبناني،
وتضغط بهذا الموقف العربي المتهالك على الأميركيين.
ثم تضغط بالأميركيين على “الموقف” العربي لتجعله “مواقف” شتى يلغي بعضها البعض الآخر، فإذا هي غير مطالبة إلا “بالسلام مقابل السلام”!!
*وفي سوريا (ومعها) – تمارس إسرائيل أقسى ضغوطها عبر لبنان، لتحول لبنان من حليف إلى عبء ولتحول سوريا من قوة حماية ودعم إلى “غاز طامع” و”وصي” يمارس انتدابه على أخيه الأصغر المثخن بالجراح!
كذلك فإسرائيل تحرك، ومن واشنطن وعبرها، مسألة “علاقة سوريا بالإرهاب والإرهابيين”، فتفاجئ أوساطها، داخل الإدارة الأميركية والكونغرس كما في مراكز الأبحاث والدراسات ولاسيما في أجهزة الأعلام، العالم بين حين وآخر بحكايات منسية عن حوادث قديمة مفادها إن العرب – عموماً – مجموعات من الإرهابيين، وإن السوريين (الآن!!) هم الأبرز في هذا المجال!
على أن أخطر سلاح “إسرائيلي”، وبالتالي أميركي يبقى هو هو : الشقاق العربي،
فـ “بنادرة” العرب لا يكتفون بمعاقبة من وقف من “أخوانهم” مع صدام حسين في مغامرته البائسة في الكويت، ولكنهم “يؤدبون” أو يجعلون أنفسهم مجرد عصا في يد الأميركي لتأديب “أخوتهم” الرافضين لواقع الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أرادوا رد “الجميل” للأميركي على “تحريرهم” فتنازلوا للإسرائيلي عن كل ما احتله من الأرض العربية: كامل فلسطين وبعض جنوب لبنان والجولان السروي!
بل إن اغتباطهم بهذا “التحرير” دفعهم إلى فتح أبواب أقطارهم الغنية للإسرائيلي يرفعون عنه المقاطعة ويصالحونه مجاناً ثم يشركونه في ثرواتهم الهائلة!
أما “المفاوضات” حول “إعلان دمشق” فهي طبعة جديدة من الجدل البيزنطي حول جنس الملائكة تستهلك الوقت والأعصاب والمشاعر، وتهيء المسرح للمفاوضات العقيمة مع الإسرائيلي المستقوي على العرب بالأعراب، وعلى الأميركيين بالتهالك العربي، والذي عزز “العرب” موقعه كأقوى صوت انتخابي في إمبراطورية النظام العالمي الجديد.
… ولنأمل ألا نخسر في مفاوضات “السلام” ما لم نخسره حتى الآن في الحروب الإسرائيلية!