مفرح هو خبر “تحرير” أسرى الحرب العراقية – الإيرانية، بمعزل عن ملابساته السياسية، لكن هذه البشرى بإطلاق عشرات ألوف الضحايا للحرب الخاطئة تتضمن أكثر من مفارقة محزنة:
*المفارقة الأولى – إن الأسرى العراقيين، تحديداً، إنما يطلقون فيستعادون لكي يشاركوا في حرب خاطئة أخرى، قد تودي بهم وبالعراق الذي يرى فيه الكثير من العرب “ترس الأمة”.
*المفارقة الثانية، وهي الأقسى – إن هؤلاء الأسرى يطلقون بينما يتسبب قرار جديد لصاحب “القادسية” ذاته في إسقاط الأمة برمتها – هذه المرة – في الأسر.
إن الأمة، الآن، في الشرك الأميركي: مهيضة الجناح، مرتهنة الإرادة، غير قادرة على المقاومة لأن الحرب قد فرضت عليها، مرة أخرى، في الزمان الخطأ والمكان الخطأ وبالشعار الخطأ.
وليس من العدل أن نخسر الأمة بحجة إننا نريد أن “نربح” الكويت،
وليس منطقياً أن نواجه العالم كله بذريعة إننا نريد “منازلة” الإمبريالية.
ويوم كانت هذه الأمة تخوض نضالها الحق، بشعاراتها الصحيحة، ضد الإمبريالية والصهيونية والاستعمار، قديمه والجديد، كان “العالم” كله إلى جانبها، يسلم لها بجدارتها وحقها في أن تكون طليعته لصلابتها ووضوح الرؤية لدى قيادتها التاريخية.
ألم تكن الولايات المتحدة الأميركية، بكل جبروتها (ومعها إسرائيل) أقلية ضئيلة في الأمم المتحدة لا تستطيع تعطيل قرار ولا تملك تزوير إرادة المجتمع الدولي وادعاء النطق باسمه وتنفيذ أحكامه، كما تفعل اليوم؟!
كان كل ما تملكه هو حق الفيتو في مجلس الأمن الدولي، ولقد استخدمته حتى استهلكته، وكان إسرافها في استخدامه يؤلب عليها الشعوب في أربع رياح الأرض ويظهرها في صورتها الحقيقية: قوة غاصبة وعاتية تسخر قدراتها غير المحدودة لإذلال الإنسان في كل أرض، ولقهر الشعوب ومنعها من ممارسة حقوقها الطبيعية في التحرر والتقدم والإسهام – بقدراتها، مهما تواضعت – في صنع الحضارة الإنسانية.
اليوم، وبأفضال صدام حسين، تقدم الولايات المتحدة نفسها للعالم بوصفها مجسدة إرادة المجتمع الدولي، وتكاد تضربنا – نحن الضحايا – تحت علم الأمم المتحدة وباسم تنفيذ قرار مجلس الأمن، الذي كان ملجأنا وملاذنا الأخير!!
ألم يكن أعز مطالبنا حتى الأمس القريب “تنفيذ قرارات مجلس الأمن الدولي” وبالتحديد ما يتصل منها بنتائج الحروب الإسرائيلية على الأمة، أي باستمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضي ثلاث دول عربية إضافة إلى فلسطين من النهر إلى البحر؟!
لقد تحول الضحايا إلى عصاة خارجين على الإرادة الدولية!!
ومن العبث اليوم أن نحاول تذكير العالم بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الخاصة بتقسيم فلسطين أو بإجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الأراضي العربية المحتلة بما فيها معظم الجنوب اللبناني.
وصحيح إن صدام حسين ليس هو المسؤول عن التحولات المذهلة التي جعلت الإمبريالية الأميركية سيدة الكون، ولكنه بتصرفه الأخرق أعطاها الذريعة لأن تأسر الأمة العربية جميعاً، وتسترهن إرادتها وثروتها بوضع اليد، مموهة تدخلها الفظ بالراية الزرقاء للأمم المتحدة ومبرقعة هيمنتها العسكرية المباشرة بقرار مجلس الأمن 661 المعبر عن “إرادة المجتمع الدولي”.
لقد سعى صدام حسين وراء بعض أوهامه فكانت النتيجة أن حقق للإمبريالية الأميركية بعض أعز أمنياتها وأحلامها في السيطرة المباشرة والكلية على الأمة والمنطقة برمتها.
ولقد نجح في اجتياح الكيان الكرتوني لدولة الكويت “العظمى”، ولكنه وضع العراق في مهب الريح العاتية، بشعبه وجيشه وإمكاناته التي كانت الأمة تعتز بها وتفاخر،
ومن حق العرب اليوم أن يخافوا على عراقهم خوفهم على سائر أقطارهم المهددة بويلات لا يمكن حصرها ولا هم بقادرين على جبهها،
فالعراق أغلى على قلب الأمة من صدام حسين وأي حاكم آخر،
والأمة تريد سلامة العراق ولو من دون الكويت، حتى إشعار آخر، لأن الكويت – على فرض إنها سلمت – لن تعوضها العراق إذا ما تعرض للدمار، لا سمح الله.
والهم، مرة أخرى، كيف ننقذ العراق، وليس بأي حال كيف ننقذ آل الصباح ومن ماثلهم من شيوخ النفط السفهاء!
حربان ضدك!!
… وبالتداعي المنطقي فقط يمكن التوقف أمام بعض الظواهر الملفتة والمفسرة لسياق الأحداث الساخنة التي ترج أرضنا وكرامتنا وعقولنا وعواطفنا.. وبينها:
*** عندما هاجم صدام حسين إيران، لم يحشد الرئيس الأميركي الشرس رونالد ريغان الأساطيل ولم يرسل القوات المجوقلة ولا تلك المدربة على الحرب الكيماوية ولم يستدع الاحتياطي، ولم يستعن بالطائرات الشبحية التي لا يلتقطها الرادار.
كانت حرب صدام حسين لوحدها قادرة على حماية المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً، وإسرائيل ضمناً.
بل لعلها كانت أفعل من الجيوش والأساطيل الأميركية والغربية مجتمعة.
ولم نشهد على امتداد السنوات الطويلة لتلك الحرب المدمرة والمريرة تظاهرة كراهية حربية هائلة كالتي تتصدر صحفنا وشاشات التلفزيون وتتسلل كوابيس إلى أذهان أطفالنا وأطفال الدنيا بأسرها مؤكدة جبروت الطاغوت الأميركي.
*** أكثر من هذا: لم يقلق ريغان، لحظة واحدة، على النفط (الشريان الحيوي للحضارة الغربية!!) وهو يرى آباره في قطرين أساسيين من الأقطار المنتجة مهددة بالدمار والنسف والتدمير الشامل وضياع الذهب الأسود هباء!
كل ما فعله السيد الأميركي إنه انصرف إلى جني الثمار الشهية لحرب القادسية ومن بينها:
*نتائج المواجهة المفتعلة بين العروبة والإسلام، وكأنهما عدوان لدودان، في حين إنهما حليفان تاريخيان طبيعيان مجدهما واحد وعزهما واحد لا ينهض واحدهما على حساب الآخر ومن دون الآخر فإذا ما سقط أسقط معه الآخر بالضرورة، ذلك إن حبل السرة بينهما لا ينقطع فإذا ما انقطع أو أصابه وهن كان “التوأمان” عرضة للتهافت وفقدان المناعة والاندثار.
*إضعاف الأمة العربية بإفقادها أحد أهم أصدقائها، إيران خصوصاً وقد أعادتها الثورة الإسلامية إلى الصراط المستقيم فخرجت من تل أبيب حيث وضعها الشاه طالبة القدس الشريف، أول الحرمين وثاني القبلتين للعرب والمسلمين.
*إنهاك الأمة العربية بإشغال واحد من أهم جيوشها في حرب بلا نهاية ضد بلد كان آتياً إلى صداقتنا فذهبنا إلى معاداته أو تركناه يذهب إلى معاداتنا إلى حد التدمير الشامل للأمتين الجارتين والشريكتين في الإسلام وفي المصالح الحيوية وفي العداء للإمبريالية والصهيونية والاستعمار، من حيث المبدأ.
*ضرب فكرة الثورة في إيران، وتشويهها ومقاتلتها لحرفها عن مسارها وإجبارها على الارتداد إلى الفارسية ومن ثم على العودة إلى أحضان الإمبريالية ساحبة معها سائر الأقطار الإسلامية التي ينظمها المؤتمر الأميركي إياه.
*فرض مزيد من الخلخلة والاضطراب على المجتمع العربي، واستحداث المزيد من أسباب الشقاق والتباعد والتباغض والتناحر بين الأنظمة، بل وحتى بين “الشعوب” العربية ودفعها إلى مواجهة بعضها البعض بقوة السلاح أحياناً.
*هدر ثروة العرب القومية وثروة إيران في حرب لا يفيد منها إلا أعداء الطرفين وفي الطليعة منهم الإمبريالية الأميركية والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
واستطراداً تمكين الأميركي من شفط النفطين العربي والإيراني، ومن ثم نفط العالم الثالث، على حساب حق شعوب هذه المنطقة في التقدم واللحاق بالعصر.
اليوم وعبر الحرب الثانية التي يورط صدام حسين الأمة فيها، ومرة أخرى في الزمان الخطأ والمكان الخطأ وبالشعار الخطأ، تتحقق للولايات المتحدة الأهداف التي قصرت الحرب الأولى في تحقيقها، ومن بينها.
** السيطرة المباشرة على المشرق العربي برمته، سياسياً وعسكرياً واقتصادياًز
** تطويع دول العالم كلها في حملة كراهية عز نظيرها ضد العرب، كأمة،
** تدجين دول أوروبا الغربية واليابان واستخدام الثروة العربية (المصادرة) لفرض التبعية عليها والتسليم بالهيمنة الأميركية المطلقة.
** فرض مزيد من التفكك على المجتمع العربي بحيث يكاد ينكر الأخ أخاه، ويحاول كل حماية رأسه ولو على حساب الآخر أو مجموع الأمة.
فوسط هذا الحشد من الجيوش والأساطيل التي تفرض الحصار على الأمة، لا يستطيع أي عربي – حاكماً كان أو محكوماً – أن يدعي بعد إن قراره حر، وإن إرادته غير مرتهنة، بمن في ذلك أولئك الذين استدعوا العسكر الأميركي لحمايتهم مستجيرين به (!!) من أطماع الشقيق ذي المليون جندي وأكثر!
.. ومع ذلك فإن بوش يتابع ممارسة هوايته في لعب الغولف ويطلق تهديداته بإبادتنا بين طابة وأخرى!!
تقدم إلى… القرن الماضي!
من قال إننا لا نتقدم كفاية؟!
ها هو النظام العربي العظيم يحقق بعض أهم إنجازاته، عبر مغامرة صدام حسين وأنداده الميامين، فيعيد الأمة قرنا كاملاً إلى الخلف.
أليست صور الوقائع اليومية اليت تفقأ عيوننا كل لحظة مشابهة تماماً لتلك التي شهدها أسلافنا في القرن الماضي (مع فارق في الحجم والإعداد ووسائل التقدم الحضاري)!!
على إن أجدادنا كانوا أسعد حظاً منا إذ لم تكن هناك عدسات وأقمار صناعية وتلفزيونات وإذاعات وصحف ومجلات ملونة. وهكذا لم “يخلد” أحد فضيحتهم وعاراستسلامهم لقوة القهر الأجنبية، في حين إن عار جيلنا الذي تقدم مائة سنة إلى الخلف سيخلد بالصوت المجسم والصورة الملونة قياس ألف بوصة!
اللحى والوطن!
خبران من إسرائيل يستوقفان ويدفعان إلى التأمل:
*الأول جاء على شكل تصريح لرئيس دولة إسرائيل وقال فيه هرتزوغ، مستخلصاً بعض وقائع غزوة صدام: إن الأحداث الجارية الآن، ومن قبلها حرب الخليج، تدل بما لا يدع مجالاً للشك على إن الصراع العربي – الإسرائيلي ليس هو القضية المركزية لدول الشرق الأوسط وشعوبها.
(… ولولا بعض التحفظ لقال هرتزوغ إن الصراع العربي – الإسرائيلي لم يعد القضية المركزية لنضال الأمة العربية، ولم يعد تحرير فلسطين بين اهتمامات قياداتها الفذة)…
*الخبر الثاني يفيد إن أقنعة الغاز لا تحمي أصحاب اللحى، إذا ما وقعت حرب كيمياوية، ولهذا فقد نصح كبير الحاخامين أصحاب اللحى من المتدينين اليهود بأن يحتفظوا بمقصات في جيوبهم لاستخدامها عند الحاجة!
الحرب أهم من اللحية عند الحاخام،
وفي بعض أنحاء بلادنا يضع البعض لحاهم فوق الوطن والأمة والدين ذاته!
خيار بين مقامرين؟!
هل جاءكم خبر ذلك النفطي “العربي” الذي خسر 16 مليون دولار على مائدة القمار في كازينو “كارلتون” بمدينة كان في جنوب فرنسا؟!
وهل خيارنا حتمي بين طاغية فرد يقامر بمصير وطن ومصير أمة إرضاء لطاووسيته، وبين نفطي سفيه يقامر بمال عام سرقه من ثروة الأمة وذهب يبدده مبدداً معه كرامتها وجدارتها وأهليتها بأن تكون ذات دور؟!
كلاهما مقامر، وكلاهما يعمل لإلحاق الهزيمة بالأمة،
… ومن هنا صعوبة الحرب المفروضة عليك، فجبهاتها أكثر مما تطيق، خصوصاً وإنها قد فتحت عليك معاً!
ولعل بين ما يعزيك القول: لو لم تكن قوياً (بمعنوياتك!) إلى هذا الحد لما استلزم الأمر كل هذا الحشد المهيب من الداخل والخارج!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان