هي “رمية من غير رام” ولكنها أصابت “الهدف” تماماً وكان توقيتها “تاريخياً”: أن يمنح الرئيس رفيق الحريري، وفي هذه اللحظة بالذات، دكتوراه فخرية في القانون!!
وهو قد استبق الحفل وارتداء الثوب الجامعي وتسلم الشهادة بتأكيد علاقته الحميمة بالتشريع والعدالة وروح القانون بما هو إطار ناظم للعلاقات في المجتمع بما يحمي حقوق فئاته وطبقاته جميعاً، وذلك عبر أطروحته المميزة والمستمرة فصولاً حول الحريات الإعلامية عموماً وحرية الصحافة بشكل خاص، وقد توجها بإصراره على أن يكون بطل تعديل المرسوم 104 السيئ الذكر.
والتعديل نموذجي في توخيه إحقاق الحق وترك الحكم للقدر والشكوى لله، إذ أنها لغيره مذلة.
واليوم بالذات سيخرج رئيس الحكومة على الناس في صورته الأخيرة: حامي حمى الحريات والديموقراطية وحصنها الحصين، الصحافة.
وسيسجل “التاريخ” إن الشيخ – الدكتور – الرئيس رفيق الحريري قد خيّر الصحافة وأعطاها الحق الكامل والحرية المطلقة في المفاضلة بين وسائل الإعدام: حبل المشنقة أم الكرسي الكهربائي أم الموت البطيء بالغرامة التي تعادل قيمة مؤسسة إعلامية كاملة!
لكن ما علينا والقانون، لنتركه لأهله، ولنعد – بعد هذا الاستدراك الذي فرضه الحدث التاريخي بتطويب الحريري قانونياً – إلى صلب الموضوع.
وصلب الموضوع: ما يراد من الصحافة وما يراد بها ولها.
فالمتابع أو المراقب يكاد يستخلص حقيقة مذهلة مفادها: أن كل الحروب قد انتهت إلا الحرب على الصحافة خصوصاً والإعلام عموماً. وحدها هي الحرب المستمرة، تطارد بمدافعها وعبواتها الناسفة وأفخاخها القاتلة وكواتمها (وبينها القوانين الجائرة) الفكر والرأي والكلمة والاجتهاد والمعلومة والتحليل وكل المساحة المتاحة للتأمل والنظر والتعبير عن الهواجس ومكامن القلق والخوف على المصير في هذه اللحظة الفاصلة بين زمانين.
وحدها المعرفة مصنفة بين المحظورات.
وحده الممنوع: حق الإنسان في تأكيد إنسانيته وفي ممارستها، أي بأن يقول ويكتب ويخطب ويعبر عن رأيه ويشارك في عمل سياسي أو تنظيم شعبي، والأهم في أن يعرف ما يجري وفي أن يختلف مع حاكمه.
كل أنواع المرتكبين والعصاة المجرمين والسفاحين وأبطال المجازر الجماعية ومدمري المدن والجامعات والمكتبات، قفزوا من موقع المطلوبين للعدالة إلى سدة السلطة، وصارت الدولة إليهم: يسنون الشرائع والقوانين، يقررون مراتب الناس ومواقعهم وأرزاقهم، ويمنحونهم شهادات حسن السلوك والسيرة!
كل أنواع الجرائم الخطيرة مُسحت بالعفو العام: الخطف والقتل على الهوية، إبادة الأحياء والقرى والمخيمات، تهجير مئات ألوف المواطنين، أحكام الإعدام بالجملة التي نفذت علناً وسجلت (بالصورة الملونة والصوت الحي) كإنجاز عظيم، مصادرة المنازل والممتلكات العامة والخاصة، سرقة المصارف، ثم: تقسيم البلاد وإقامة الكانتونات والدويلات والجيوش والميليشيات الخ…
وحده الصحافي هو الذي اجتمعت عليه السيوف جميعاً، من الداخل والخارج، من ممولي الحرب وأمراء الحرب، واعتبرته السبب في الحرب، ومن أيقظ الفتنة وأطلق نارها، ومرتكب جرم الخيانة العظمى بتهديد سلامة العباد ووحدة البلاد ومدمر دولتها ومؤسساتها والخارج على جمهورية الطائف والدستور الجديد الخ.
الكل أبرياء، أولئك الذين كانوا يصنعون الأحداث، لكنه هو الخطر لأنه كان ينقل أقوالهم أو يصف ما اتصل بعلمه من أفعالهم، أو يتبرع بشهادة زور حول ما لم يتصل بعلمه، حرصاً على الوحدة الوطنية والسلامة العامة وحلم الوطن.
لا خلافات الرؤساء، ولا معاركهم مع الوزراء، ولا تغييب المؤسسات ولا انفكاك الحكومة / الحكومات وتلاشيها.
لا الأزمة الاقتصادية الخانقة والا المخالفات الدستورية الفاضحة ولا تشطير الهيئات النقابية والمنظمات الشعبية وتدجين بواقي الأحزاب، لا إغراق البلاد في حماة الطائفية بل المذهبية كما لم تكن في عز الحروب الطائفية والمذهبية.
لا الصفقات في مختلف المجالات وكلها تتم بواسطة إعلانات مذهبة وباللغات الحية جميعاً، من الهاتف الخليوي إلى الم
طار الخالي إلى قصر المؤتمرات العامر إلى القطار – الضرورة إلى المدينة الرياضية التي تتقدم على إيواء المهجرين أو الباحثين عن سكن كالخرافة.
لا السكوت عن فوضى الإعلام المسموع والمرئي لسنين طويلة، بل والمشاركة فيها من موقع المسؤولية الحكومية، واختطاف البث الفضائي بقوة سلطة المال ومال السلطة، والانتصار على الدولة من موقع أصحاب الدولة.
لا شيء ولا أحد من أولئك جميعاً يستحق الحساب أو العقاب.
وحده الصحافي الذي لم يتحوّل إلى شاعر في بلاط السلطان ولا صار بوقاً لإنجازاته المجيدة، هو المسؤول عما تقدم من ذنوب الخلق وما تأخر، ويستحق أن يعدم ألف مرة في اليوم!
لكأن الحرب انتهت بالنسبة إلى الجميع إلا على الصحافة والصحافيين، فهم المسؤولون عن جميع الحروب.
في حزيران 1977 وبموجب المرسوم الشهير الرقم 104 تم تحميل الصحافة المسؤولية عن “حرب السنتين” فأدينت وحكمت بالإعدام.
واليوم وبعد ثلاث سنوات من الإعلان الرسمي عن انتهاء جميع الحروب وإصدار العفو العام عن مدبريها ومموليها وأدواتها والمستفيدين منها، يُعاد إصدار الحكم بالإعدام مجدداً على الصحافة والصحافيين!
وإذا كان باستطاعة حكومة 1977 أن تدعي أن الأمر قد فرض فرضاً عليها ولم تكن تملك أن ترده، فلسنا نعرف ما هي ذريعة حكومة 1994 لكي تمضي فيه متباهية بأنها بذلك تحمي الحريات وتصون الديموقراطية وتوفر الجو المثالي لعمل صحافي ممتاز ينشر أوسع مساحة من الضوء فوق صحراء الجهل العربي العام.
وطريف أن رفيق الحريري يحذرنا بأن نقبل المعروض حتى لا يفرض علينا المفروض، فنصير في حالة شبه سعودية يطبق علينا هنا ما هو ساري المفعول في مملكة الذهب الأسود والصمت الأبيض.
الأطرف أن يطمئننا رئيس الحكومة أنه قد تدخلبنفسه ووقع في الفخ وتأذى لكي يرد عنا دكتاتورية حكومته ووزرائه ومستشاريه وأعوانه الكثير فيها.
شأن الحكومة أن تعدل أو لا تعدل أو تبقي المرسوم 104.
أما الصحافة فلا تشارك في مناقشة كيفية إعدامها.
الصحافة ضد المرسوم 104، أمس واليوم وغداً. وأبسط حقوقها أن يلغى، وأن تكمن من أن تضع مشروع قانون عصري وديموقراطي للمطبوعات. وملجأها الطبيعي مجلس النواب والرأي العام بكل هيئاته أو ما تبقى منها.
ولقد ارتضينا ذات يوم أن نساوم فنقبل بتعديل ذلك المرسوم الجائر كرد مباشر على التعسف، وفي انتظار أن تباشر النقابة، بحماية من مجلس النواب ومن المستنيرين عموماً في البلاد الحريصين على حرياتهم وحقوقهم وأولها حقهم في المعرفة وفي الاختلاف مع الحاكم، إعداد القانون العتيد للمطبوعات، العصري والديموقراطي واللائق بكرامة الذين قضوا أو الذين ينتظرون في نضالهم من أجل الحرية والديموقراطية والوحدة والعدل.
وصحيح أننا لا ننتظر من هؤلاء الذين يحكمون الآن بقوة عفو خاص أصدروه بأنفسهم عن جرائمهم الخطيرة، أن يصدروا حكماً ببراءة الصحافة من المسؤولية عن “حروبهم” وعن الآثام التي ارتكبوها في ظل السلام، وبعضها أخطر مما ارتكبوه في الحرب.
ولكن الصحافة لا تقبل أن تظل المجرم الوحيد المطالب دائماً بإعدامه في هذه الغابة من “الأبرياء” الطاهري اليد والذيل.
لقد رمونا بدائهم وانسلوا… وهم الآن يعرضون علينا أن يمنوا علينا بتخفيف العقوقة!!
ولسنا نريد منتهم، فليبقوا حكمام المرسوم 104.
وبرغم أننا قد خضعنا للتدجين، بفعل الحرب وأخطارها الهائلة، فما زالت بنا بقية من قدرة على رفض الصفقة المشبوهة.
لن نضع توقيعنا إلى جانب تواقيعهم على وثيقة تتصل بالحرية والديموقراطية وكرامة الإنسان.
لن نغادر موقع الضحية، فنحن بعض شعبنا، وموقعنا موقعه، وهو وحده مصدر البراءة، وإليه فقط نحتكم.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان