في الأساطير الدينية أن يهوذا الأسخريوطي قد باع السيد المسيح بثلاثين من الفضة، وإنه أنكر “المعلم” ثلاثاً قبل صياح الديك،
وفي الأساطير ذاتها إن هذا الذي خان “السيد” وسلمه للصلب، محققاً أمنية اليهود، قد عانى من عقدة ذنب استحكمت فيه فأودت به إلى شنق نفسه معلقاً في شجرة تين،
أما في الوقائع العريبة الراهنة فإن “يهوذا” الجديد يخون ويدفع من كيسه، مبرئاً الخيانة من شبهة أن تكون مدفوعة!
فـ “يهوذا” المعاصر (وهو عربي عدناني بالكوفية الحمراء والعقال الأسود) يسلم الأرض ومعها “العرض” – إذ أنه يهبها بمن فيها وعليها – لأولئك الذين صلبوا ذلك الفلسطيني الذي استولده الله بنفخة من روحه، ثم إنه يدفع من “جيبه” الشخصي مليارات من الفضة والذهب (أصفر وأسود)!
و”يهوذا” المعاصر يطوف على أشقائه العرب مطالباً إياهم باقتناص الفرصة “التاريخية” التي قد لا تتكرر، والتساهل في موضوع الأرض طلباً للسلامة… وما الأرض – بترابها ومائها وسمائها وأجداث الأجداد فيها وذكريات الآباء وطموحات الأبناء!! – ومن قديم الزمان قال “مجنون” من شعراء العرب إن أرض الله واسعة “غداً أبدل أحباباً وأوطاناً”!
و”يهوذا” المعاصر يأخذ من “أهله” العرب ليعطي إسرائيل فيتصرف شامير وكأنه وارث عن أبيه.
و”يهوذا” المعاصر يهدد أخوانه العرب بأنهم إن هم لم يصدعوا للأمر الأميركي الإسرائيلي ولم يباشروا المفاوضات متعددة الأطراف فوراً وبغير إبطاء ومن دون التحقق من احتمال استعادة أرضهم المحتلة سيواجهون مصيراً أسود، وإنه هو ومن يمثل سينكرونهم ثلاثاً قبل صياح الديك وسيسلمونهم للصلب!
“يهوذا” العربي هذا يوفر على إسرائيل، واستطراداً على واشنطن، بل هو يضيف “رصيده” المحترم إلى قوة الابتزاز والضغط التي يمتلكانها، متسبباً في إضعاف الموقف العربي الضعيف أصلاً وتفكيكه وهو المهزوز أصلاً، بما يمكن العدو من فرض شروطه التي لا تعني، مهما موهت، شيئاً آخر غير الاستسلام.
وفي أخبار الأمس وحدها أكثر من دليل على النتائج الفورية لجهود “يهوذا” المعاصر ذي الكوفية والعقال،
*فالكنيست الإسرائيلي يعزز موقع شامير التفاوضي، في وجه الولايات المتحدة وليس في وجه العرب، بالتصويت على قانون جديد ينص على إن “الجولان غير قابل للتفاوض”، وهو يأتي استلحاقاً لقانون سابق بضم الجولان (السوري) إلى أرض إسرائيل التوراتية أصدره الكنيست ذاته قبل عشر سنوات.
*والناطق باسم شامير يخاطب الوفد الفلسطيني المفاوض، والفلسطينيين عموماً بأن يعودوا إلى طموحات أكثر واقعية، وبأن إسرائيل ليس عندها ما تقدمه لهم أكثر من الحكم الذاتي ، أقله في مدى الخمس سنوات المقبلة.
*والمدافع الإسرائيلية ما تزال تلهب بلدات جبل عامل وقراه، في جنوب لبنان، وتهجر الآلاف من الآهلين الذين صمدوا لسنوات الموت والهزيمة والخيبة والمرارة والياس القاتل من “نخوة” أهل يهوذا و”أصدقائهم الكبار”.
“يهوذا” يجوب الأرض العربية هذه الأيام، لا يكاد يطير حتى يغط، ملوحاً بالعصا الأميركية (والمدفع الإسرائيلي) وكيس الدنانير العربية.
أما اليهودي الأصلي فيفيد من هذا الجهد المبارك ويوظفه لكي يستفرد المتشبث بأرضه وبحقه التاريخي فيها، فيصوره وكأنه معاد للعالم كله، بمن فيه العرب، وليس فقط للإسرائيلي ومعه الأميركي أو العكس.
وثمة تكامل بين الدورين، تماماً كما كان بين يهوذا وبين الذين أرادوا صلب السيد المسيح، فالخيانة الداخلية شرط لا بد منه للصلب لكي يمكن، من بعد، أن يغسل بيلاطس البنطي يديه من دم هذا الصديق،
في الوقائع العربية الراهنة أن “يهوذا” المعاصر قد لعب دوراً خطيراً في مدريد يتجاوزالمصالح الأميركية ليصب في نهر المصالح الإسرائيلية المباشرة.
ويمكن فهم هذا الدور أكثر فأكثر إذا ما استذكرنا “التفاصيل” الآتية:
1 – إن الوفد الإسرائيلي الذي فاوض اللبنانيين قد أفرط في الرقة حتى كان ينفلق. فبعد مقدمة “عائلية” أوردفيها رئيسه إن ثلاثة من وفده يحملون شهادات تخصص عال في بعض المسائل اللبنانية، وإن رابعاً منهم قد ولد في لبنان وعاش فيه حتى سن السابعة عشرة، وتلقى علومه حتى البكالوريا في مدرسة عينطورة،
… بعد هذه المقدمة عاد رئيس الوفد الإسرائيلي يكرر على مسامع مفاوضيه اللبنانيين إن ليس لإسرائيل أية مطامع في أرض لبنان أو مياهه وإنها لا تريد منه أكثر من ضمان أمنها، وإنها تطمع في علاقات حسن جوار طبيعية تنظمها معاهدة تكون عنواناً للعلاقات الطبيعية.
2 – في الوقت ذاته كان الإسرائيليون يؤكدون مع الأردنيين إن لا مشكلة بين “البلدين الجارين” وإن ليس ثمة ما يتفاوضون عليه، لأن الاتفاق كامل شامل!
3 – كذلك كان الإسرائيليون يطمئنون الفلسطينيين إلى أن “حلمهم” بالحكم الذاتي سيتحقق، وإنهم يقتربون من تحقيق هذا الحلم بمقدار ما يبتعدون عن أهل الرفض والتطرف من عرب الزمن القديم، ومن شعارات التحرير والكفاح المسلح والوحدة والرباط القومي المقدس!
على هذا يبقى طرف عربي واحد “في قفص الاتهام” هو السوري!
والسوري، في هذه الحالة، لا يعود رافضاً أو مشاكساً في وجه الإسرائيلي، بل يبدو وكأنه لا يريد الخير لأخوانه العرب، وإنه هو الذي يمنع عنهم هذه النعمة الأميركية التي استولدت الموافقة الإسرائيلية على التسوية بمعجزة خارقة!
ويتحرك “يهوذا” العربي ليضغط من أجل انتزاع الموافقة السورية على إباحة الأرض والسماء والمياه والاقتصاد والسياحة والثقافة للإسرائيلين من دون مقابل إلا ما يطرحه الإسرائيلي “السلام مقابل السلام”!
من يستطيع أن يتصور الضفة الغربية وقطاع غزة بعد خمس سنوات، وكم تكون نسبة اليهود إلى العرب فيهما (كسكان) ونسبة الأراضي المملوكة شرعاً للعرب إلى ما يملكه وسيتملكه شرعاً اليهود، خصوصاً متى تدفقت عليهم المليارات الأميركية (المليارات العشرة العالقة الآن، ثم ما سوف يتبعها الإسكان البؤساء من المستقدمين الجدد)؟!
ثم من قال إن “يهوذا” العرب سيتأخر عن دفع ثمن السلام، ودائماً “من جيبه الخاص”،
ومن رخصت عليه أرضه فوهبها بما تختزنه من الثروات للقادر على “حمايتها” وحمايته فوقها، لن يتردد في منح أرض الغير (من أخوانه) للقادر على أخذها بما فيها ومن عليها، أو حتى من دون من عليها،
فـ “يهوذا” قادر على أن “يبدل غداً أوطاناً وأحباباً”، بل لعله قد فعلها بالأمس!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان