لا يستطيع لبنان الرسمي أن يؤكد حديث “الإغراءات” الأميركية التي قدمت وتقدم إليه من أجل أن… ينتحر!
ولا تستطيع واشنطن أن تجهر بأنها إنما تدعو لبنان إلى حرب مع ذاته أولاً وعاشراً، ومع سوريا بعد ذلك، من دون أن تضمن له “الاعتراف الإسرائيلي” به كدولة، وبالتالي من دون أن تضمن له “أي نوع من السلام” ولو كان السلام الإسرائيلي.
على أن المؤكد، وبالتجربة الحسية، أن الولايات المتحدة الأميركية هي “شريك كامل” فقط في كل صلح منفرد تمكنت إسرائيل من إنجازه.
وهي تدعو لبنان، الآن، إلى الانتحار المنفرد بالضمانة الأميركية ذاتها التي قدمتها إلى القيادة الفلسطينية الرسمية، والتي بدأ الفلسطينيون يجنون ثمارها المسمومة في غزة واريحا… وأول الغيث قطر ثم ينهمر!
من كامب ديفيد، قبل خمس عشرة سنة، إلى اتفاق الخلسة في أوسلو قبل عشرة أشهر، فإلى اتفاق واشنطن الأردني – الإسرائيلي قبل أسبوع، تصرفت الولايات المتحدة وكأنها الطرف الثالث، أي الشريك الثالث والضامن الأساسي لكل من هذه الاتفاقات الثنائية.
في الاتفاق الأول، الذي كسر به الحاجز النفسي ورُفع الحرم وأسقط الحرام، كانت الراعي والمضيف… وكلنا نذكر الصورة الشهيرة في المصيف الرئاسي بكامب ديفيد، لأيادي أبطاله الثلاثة جيمي كارتر وأنور السادات ومناحم بيغن وقد تراصفت وتقاطعت في مصافحة – تعاهد وتلازم بين الشركاء الثلاثة.
وبرغم أن الولايات المتحدة لم تكن طرفاً ظاهراً في اتفاق غزة – أريحا فإن رئيسها بيل كلينتون سرعان ما تطوّع لأن يقدم بنفسه هذا الاتفاق البائس إلى العالم عبر الكرنفال الشهير في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض، وهو من وقف ثالثاً مع عرفات ورابين، مؤكداً الرعاية والشراكة الكاملة، كما أنه هو من دعا “الدول المانحة” إلى مؤتمر دولي برعايته لتأمين الأموال اللازمة لتحويل جيش التحرير الفلسطيني إلى شرطة مهمتها حماية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتحويل “القيادة التاريخية” لمنظمة التحرير إلى حفنة من “المتعاملين” لا يختلفون كثيراً عن “المتعامل” اللبناني أنطوان لحد…
وها هي الآن تظهر نفسها طرفاً ثالثاً في الاتفاق الأردني – الإسرائيلي والذي تم التوصل إليه، حسب المصادر الإسرائيلية، بعد ثلاثة لقاءات سرية، على الأقل، جمعت بين الملك حسين والمسؤولين الإسرائيليين (اثنين مع إسحق رابين والثالث مع شيمون بيريز).
الطريف أن اثنين من هذه الاتفاقات المنفردة قد تم الوصول إليها في ظل مؤتمر مدريد والمفاوضات المفتوحة بالرعاية الأميركية وفي واشنطن بين الأطراف العربية التي كانت أربعة (ثم اختزلت إلى اثنين فحسب) وبين “عدوها” الإسرائيلي.
أي أن الظن يمكن أن يذهب بعيداً فيفترض، بالاستدلال المنطقي كما بالواقع المادي المحسوس، أن المظلة الأميركية الواسعة ما أقيمت فوق مؤتمر مدريد، بكل شعاراته البراقة والضمانات الأميركية الخطية المعززة بالتوكيد والإصرار، وبكل مرتكزاته القانونية ممثلة بقرارات الشرعية الدولية (قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن)… إن تلك المظلة الفخمة إنما أقيمت فقط من أجل تمرير اتفاق منفرد أو أكثر، في ظل ادعاء العمل االنشط ومن موقع الوسيط النزيه لإنجاز حل أو سلام عادل ودائم وشامل!
لكأن واشنطن تبنت، بالنتيجة، المنهج الإسرائيلي: تحدث عن السلام بينما أنت في طريقك إلى الحرب، وركز على الحل الحاسم والشامل وأنت توقع على الحل الجزئي والمنفرد.
وهذا المنهج ينتهي إلى خلاصة محددة: إن الحل (الشامل) هو حصيلة جمع عدد من الاتفاقات المنفردة!!
لقد استثنى وارن كريستوفر لبنان من جداول زياراته الأخيرة للمنطقة، واستعاض عن لقاءات النقاش والحوار انطلاقاً من دور الوسيط النزيه والشريك الكامل ببعض الاتصالات الهاتفية التي تندرج في خانة المجاملات و”جبر الخاطر” أكثر مما لها صلة “بالعملية السلمية” ومسيرة التفاوض المغلقة إلا في اتجاه وحيد يؤدي إلى الاتفاق المنفرد.
بالمقابل فهو قد اندفع محموماً إلى زيارة أريحا، حتى من قبل الذين باعوا بها فلسطين ونضالات شعبها على امتداد قرن كامل تقريباً.
وليست تلك الزيارة أمراً عارضاً ومن دون مغزى: أن يسبق وزير خارجية الولايات المتحدة القيادة الرسمية الفلسطينية إلى عاصمة السديم الفلسطيني المسمى “منطقة الحكم الذاتي”… خصوصاً وإنه قد زار أريحا بينما كانت إسرائيل “توسطه” لنسف المسار السوري بتحميله اقتراحاً مفخخاً ومهيناً ومرفوضاً بالبداهة.
ثم إن إسرائيل قد شغلت الوقت الفاصل بين جولتين من جولاته بمسلسل من الاعتداءات والغارات اليومية على لبنان، شملت هذه المرة عمليات نوعية كمثل عميلة الكوماندوس لاختطاف مصطفى الديراني من قصرنبا (البقاع)، وإحراق مواسم المزروعات والأشجار المثمرة في الجنوب، والغارة على معسكر لمجندي “حزب الله” في جرود بعلبك، مخترقة الحرم الجوي للعاصمة السورية ذاتها.
وفي ظل هذا الجو النفسي – الأمني – الاقتصادي – العسكري والسياسي الضاغط على لبنان (وسوريا فيه كما في قلب دمشق) يُنجز بسحر ساحر الاتفاق الأردني – الإسرائيلي، وينطلق مترافقاً معه الهمس الأميركي المسموم نحو لبنان: خير لك أن تنتحر باتفاق منفرد سريع من أن تموت موتاً بطيئاً بالإغارات الإسرائيلية المتعددة الأسلحة والجبات والأهداف والخطط!
وببساطة يمكن الاستنتاج أن واشنطن تسعى لحماية كل اتفاق منفرد “عربي” باتفاق منفرد “عربي” آخر.
وها هي واشنطن تعرض على الأردن الآن نوعاً من الشراكة الثلاثية معها ومع إسرائيل استعداداً لتمكينه من لعب دور في الشرق الأوسط الجديد!
ولا يهم أن يكون العرض وهمياً، فأي اتفاق منفرد لا يمكن أن يقوم إلا بالأوهام وعليها!
لكأن واشنطن تعرض على الأردن (المعزول عربياً، بنتائج عاصفة الصحراء الأميركية التي استولدتها عاصفة صدام الكويتية) أن تعيده إلى المنطقة العربية، وبالذات إلى الخليج، عبر البوابة الإسرائيلية، بينما تترك للفلسطيني دور السمسار ومخلص البضائع الإسرائيلية على بعض الحدود العربية!
والحلول المنفردة لا تقضي على القضية الواحدة فحسب، بل على المصلحة الواحدة أساساَ.
وهي لا تضرب فقط الرابطة القومية بين “العرب”، بل هي تجعل كل “عربي” خصماً للعربي الآخر، أقله من موقع التنافس وتضارب المصالح، فتستقوي كل كيانية “عربية” على الكيانية “العربية” الأخرى بالإسرائيلي: الفلسطيني مع الإسرائيلي في وجه الأردني، والأردني ومعه الفلسطيني (كل على حدة) مع الإسرائيلي في وجه السوري، وهكذا دواليك.
وواشنطن تتبنى هنا أيضاً المنطق الإسرائيلي: مَن ليس مع الاتفاق المنفرد فهو ضد السلام!
وهذا هو الخيار الأميركي المتاح أمام لبنان: تنتحر بالصلح المنفرد أو تميت نفسك ببطء في انتظار سلام لن يجيء؟!
… وتريد واشنطن بهمسها المسموم الآن أن تقول لبيروت إن رسائل الضمانات والتطمينات والتأكيدات التي قدمتها لها قبل ثلاث سنوات قد سقطت بتوقيع الصلح المنفرد الفلسطيني ثم الاتفاق المنفرد ا لأردني.
فالكلام الأميركي يمحوه الكلام الإسرائيلي.
والطيران الإسرائيلي هو وحده الصوت المرتفع في سماء بيروت، أقله حتى بدأ الهمس الأميركي المسموم!
والسؤال: أيهما الصوت وأيهما الصدى؟!!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان