أما آن أن تهدأ سورية الحقد والغضب والشك وغريزة الانتقام والثأر من الذات، وأن يستعيد الحكام العرب الحد الأدنى من الوعي بحقيقة ما يدور من حولهم وما يدبر لبلادهم – وغالباً بسببهم – ولمستقبل الأجيال الآتية والمحكومة بأن تتحمل ثمار إنجازاتهم الباهرة؟!
أما آن أن يرتفع صوت المصلحة الذاتية المباشرة، حتى لا نقول صوت العقل، بالاعتراض على اغتيال ليبيا (والعرب جميعاً)، والتشهير المقذع بالإنسان العربي في كل أرض وتحقيره واختزاله بسفاح بنسف الأطفال والنساء والشيوخ وأحلام الصبايا في طائرات مدنية؟!
وهل يعقل اختصار القرار بمحاصرة ليبيا وتجويعها ومن ثم التسليم “بمشروعيته” من خلال الاعتراض (المعلن أو الضمني) على مواقف سبق أن اتخذها العقيد معمر القذافيث، وكان الولايات المتحدة الأميركية هي “الوصية” على العربي، حاكماً كان أم محكوماً: من تقبله فهو المؤهل للقيادة والحكم والتقدم واحتلال مكانه في النظام العالمي الجديد، ومن ترفضه فهو المنبوذ والمدان والمستحق الإعدام إهانة حتى الموت؟!
هل يبقى صدام حسين في عيونهم أكبر من العراق فيستمرون في التفرج خانعين على اغتيال هذا القطر العربي العظيم بتاريخه (والذي كان غنياً) بإمكاناته وبضرورته لهم جميعاً في الحال والاستقبال؟!
إلى متى يستمتع هؤلاء بالفرجة على أنفسهم وهم يتهاوون جزءاً وراء جزء، يمصمصون شفاههم متلذذين وشامتين بأن الشلل ضرب الذراع اليمنى – مثلاً – بينما سلمت اليسرى (إلى حين!!) أو أن المرض الخبيث قد استشرى في الصدر قبل الكتفين والرأس؟!
إن لبنان مترك لتعاساته الهائلة التي خلفتها حروب أهله وحروبهم فيهم وفيه أيضاً، يحاسب شعبه بالتخلي الذي يتجاوز أشد أنواع القسوة وحشية، مع أن آثار هذا التخلي سترتد عليهم بالتالي وليس بالضرورة في لبنان وعلى أيدي لبنانيين،
وشعب فلسطين ينزف آخر جبروته في الصمود والانتفاض ومقاومة الاحتلال الاستيطاني، وهم يتنصلون من أبسط واجباتهم تجاهه بذريعة الاعتراض على قيادته (التي استمروا لسنين طويلة يدعمونها ويساندونها ويمنعون على شعبها أن يناقشها فيبدلها أو يعدل فيها).
… ويتناسون إن ما يخسره شعب فلسطين منها وفيها لن يساعد على حماية عروشهم التي تهتز الآن باهتزاز الأرض من تحتها، والتي باتت – فعلياً – على كف… الحليف الأميركي، وبات استمرارها رهناً بإشارة من أصابعه الكثيرة!
ولا يستطيع أي من هؤلاء المكابرة والادعاء – مثلاً – إن المشاركة في المؤتمر متعدد الأطراف هو مصدر ربع للسعودية أو للكويت، حتى كان سبباً في خسائر فادحة للبنان وسوريا ومصدراً لكارثة جديدة تصيب شعب فلسطين في أرضه وحقوقه فيها.
ولماذا يصر هؤلاء على إكمال ما ارتكبه صدام حسين من خطايا وأخطاء فاحشة في حق أمته؟!
لقد اجتاح صدام حسين بعسكره قطراً واحداً لكن نتائج فعلته قد أصابت الأمة جميعاً في روحها ومعنوياتها قبل أن تصيبها في بشرها ومواردها الطبيعية،
وهؤلاء الحكام قصيرو النظر والمحكومون بالذعر من شعوبهم أولاً، ثم من جيرانهم الأقربين، ثم من “حلفائهم” الأقوياء جداً، يدمرون بمسلكهم التخاذلي والقصير النظر ما لم يدمره صدام حسين من روح الأمة ومن معنوياتها، من دون أن يستنقذوا بشرها ومواردها الطبيعية.
لقد تسبب صدام في انقسام عربي حاد، وها هم يحاولون الانقسام إلى عداء وقطيعة وانفصال مطلق عن سائر العرب، حتى أولئك الذين ساندوهم ووقفوا معهم وهبّوا لنجدتهم بالدم الغالي،
ولقد شوه صدام معنى القومية والروابط الأخوية بين العرب، ولكنهم لم يثبتوا – بالمقابل – حرصاً على ما تبقى منها، بل ها هم عبر لبنان وفلسطين وليبيا ينسحبون من أبسط واجباتهم “الإنسانية”، ويتحولون من قوة ومساندة ودعم وتأييد إلى قوة ضغط وابتزاز واستنزاف!
لماذا هذا الكلام الآن؟!
ربما لأن كثيرين يفترضون أن جولة الرئيس السوري حافظ الأسد قد تكون جرس إنذار أخير، لعله ينبه حكام الجزيرة والخليج بشكل خاص، إلى أن الخطر على الأمة بكل أقطارها، فليس ثمة أحد في مأمن وليس ثمة كبير فرق بين الحليف والخصم والمحايد في عين الغرب (الأميركي الآن)، بدليل أنه لم يراع شروط الصداقة (أو التحالف!!)، بل لعله أحرج بل أذل من يفترضون أنهم الأصدقاء والحلفاء أكثر من أولئك القانعين بمرتبة الخصوم، ولو بالحد الأدنى من الخصومة!
لا يمكن أن يكون أي حاكم عربي، بالغة ما بلغت مراراته أو انفصاليته، أنانيته أو قصر نظره، قد رأى في ما جرى ويجري لليبيا “نصراً” له على معمر القذافي، أو ضمانة إضافية له في ارتقاء في مستوى العلاقة مع “السيد” الأميركي.
ومهما بلغ وقار الملوك، فلا بد أن هؤلاء جميعاً قد شعروا بما يتجاوز المرارة والخيبة إلى المهانة والإذلال، وهم يوافقون مرغمين على رجم واحد من أشقائهم ونبذه إلى الصحراء نبذ “البعير الأجرب”… فهم يدركون أنه سيكون الأول فحسب (أو الثاني)، ولكن أحداً منهم لا يملك من أسباب الاطمئنان ما يكفل له أنه لن يكون الثالث أو الخامس أو العاشر… والتوقيت دائماً أميركي!
لقد لوح لأمير الكويت بحق شعبه في الديموقراطية،
وهدد ملك السعودية بالطعن في أهليته الشخصية، كما طعن بحق أسرته في احتكار حكم تلك البلاد الهائلة الغنى، ونشرت وسائل الأعلام الأميركية عن فهد بن عبد العزيز وأخوته وأبناء عمومته وسائر الأمراء (والأميرات) فضائح وقصصاً ليست خطيرة بوقائعها فحسب بل بدلالاتها التي تصلح لأن تكون مادة “البلاغ الرقم الواحد” أو الإعلان الشرعي بالتكفير ودعوة الأمة للخروج عن طاعتهم.
والتهديد قد يجيء عن طريق الخارج أو الجوار، وليس ضرورياً أن يكون مصدره داخلياً، ولكن النتائج دائماً في الداخل.
ترى هل آن أن يتوقف العرب عن التكهن عما يتهددهم جميعاً من أخطار داهمة وقاتلة بمناكفة بعضهم البعض ومكايدة واحدهم الآخر؟!
ترى هل آن أن يعلن حكام العرب هدنة ما في ما بينهم، ثم بينهم وبين “شعوبهم” لينظروا في “عاصفة الصحراء” ونتائجها التي لما تتم فصولاً؟!
هل من فرصة لالتقاط الأنفاس ومراجعة ما جرى تداركاً للخطر الآتي… وهو الأعظم، وعلى الجميع؟!
وهل ينجح الرئيس الأسد، وهو المشهور بحكمته وقدرته على الإقناع، في أن يفتح صفحة جديدة للعلاقات العربية – العربية قبل أن تخرب سائر مدن العرب ملتحقة بالبصرة التي كانت درة الخليج فصارت أثراً بعد عين؟!
هل ينجح في وقف الحرب على الذات، ليس من أجل مواجهة العدو القومي، بل من أجل مواجهة الذات… أي الحاضر والمستقبل وموقع الكوفية والعقال فيهما؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان