إذا لم تقع مفاجآت في حجم الكارثة الوطنية، فإن هذا اليوم، الأحد الواقع فيه الخامس من تشرين الثاني (نوفمبر) 1989، مرشح لأن يدخل التاريخ باعتباره نقطة البداية لما يمكن أن يسمى “العهد الجديد” في لبنان،
… والأهم إنه سيدخل التاريخ باعتباره بداية النهاية لحرب الخمسة عشر عاماً التي قاتل فيها الجميع الجميع واقتتل عبرها كل طرف، وربما كل فرد مع ذاته، في لبنان وعليه.
وسيدخل مع اليوم الثامن بعد الأربعمائة للبنان من دون رئيس للجمهورية، إلى رحاب التاريخ، هذا المجلس النيابي العتيق، الذي طالما أدخل التاريخ – عبر سنوات الحرب الأهلية الطويلة والمفتوحة بعد – من الباب الخطأ: تارة من باب الخدم، وطوراً من الباب الخلفي، وفي بعض الحالات من السقف المفخوت بقذيفة مدفع أو من الجدار “الطائر” بفعل صاروخ أو عبوة ناسفة.
هي، في أي حال، فرصة نادرة لهذا المجلس “التاريخي” لكي يستعيد صلته بالتاريخ، ليس بوصفه أثراً من الماضي بل بوصفه بعض ملامح المستقبل،
فاليوم، وكما لم يكن في أي يوم آخر، يتولى المجلس النيابي العتيق زمام الأمور ويقرر فيها، وكأنه “جمعية تأسيسية”، مستعيداً اعتباره إضافة إلى دوره، ومن ثم مساعداً في إعادة الاعتبار إلى ما يرمز إليه بوصفه المؤسسة – الأم المجسدة للديموقراطية والمعبرة عنها وحاميتها في نظام جمهوري برلماني كالذي يفترض إنه قائم أو معتمد، بعد، في هذا البلد الأمين.
هي فرصة للمجلس كمجلس، وبغض النظر عن المطاعن والتقولات والتخوف عليه من أمراض “التعتيق” والشيخوخة.
وهي فرصة للنواب كنواب، وبغض النظر عن الخطايا والأخطاء والارتكابات والهنات الهينات التي تورطوا أو ورطوا فيها، بالرهبة أو بالرغبة أو بكلتيهما معاً.
هي فرصة للتطهر وغسل الآثام والتكفير عما وقع منهم من تقصير وقصور، وسيذكر لهم إنهم اغتنموها ولم يضيعوها، كما أضاعوا هم (وغيرهم) فرصاً ثمينة من قبل، ولن يحاسبوا على التأخير… فإن تجيء متأخراً أفضل من ألا تجيء أبداً، كما يقول المثل الفرنسي.
والنواب، كما يعرفهم الأحياء من ناخبيهم، وكما تسنى للعالم كله أن يعرفهم عبر رحلة البحث عن الذات واستعادة الدور وتوكيد الجدارة، التي شرّفت حتى الطائف، وغربت حتى باريس (مروراً بالجزائر والمغرب) ليسوا أبطالاً ولا هم بأدعياء بطولة لم يمارسوها.
وهم، اليوم بالذات، يمارسون دورهم “التاريخي” على طريقة “مكره أخاك لا بطل”…
كلهم، من حيث المبدأ، عاديون ، قريبون من صورة المواطن، بضعفه ومباذله، بعواطفه ومصالحه وأغراضه الصغيرة، حتى وارث اللقب أو مكتسبه بالأقدمية أو بالمحسوبية، من البيك إلى صاحب الدولة إلى صاحب المعالي، يجد نفسه اليوم مضطراً إلى أداء امتحان صعب لإثبات أهليته بالمواطنة قبل مسؤولية الحكم، وإلى تجرع كأس “الجنرال” التي تضرع إلى الله طويلاً أن يبعدها عنه، فلم يجد من تجرعها بداً وحتى الثمالة.
ليس بينهم “قائد” مسلم له بحق القيادة، ولا “زعيم” تتخطى زعامته حدود الأديان والطوائف والمذاهب والمناطق والجهات، بحيث يقول : كن فيكون!
ليس بينهم “سوبرمان”، أو صاحب كرامات يجترح المعجزات،
وبينهم، كما في أية شريحة اجتماعية، وكما في مختلف الشرائح الاجتماعية التي ينتمون إليها “الأدمي” و”الرذيل”، النزيه وخرب الذمة، النظيف والمرتشي، المرتكب والمبتعد بنفسه عن موبقات العمل السياسي في البلاد المتخلفة،
على إنهم، بأكثريتهم الساحقة، من المتضررين بالحرب ومن أصحاب المصلحة – فضلاً عن الرغبة أو التمني – في إيقاف نزفها القاتل.
إنهم من الناس، بضع عشرات من “اللبنانيين” بالمواصفات الطبيعية “للبناني” الذي طبقت سمعته الآفاق.
لا هم فوق الفوق ولا هم تحت التحت،
ولهذا، على وجه التحديد، طالبهم الناس بموقف،
ولهذا، بالدقة، يتوقع منهم الناس أن ينجزوا اليوم ما عجزوا أو قصروا عن إنجازه قبل سنوات، أو حتى قبل شهور قليلة.
والناس يصفقون لهم اليوم، ويشدون على أياديهم وهم يتقدمون لممارسة واجبهم الطبيعي الذي امتنع عليهم أو تقاعسوا عن القيام به، من قبل،
المهم الإنجاز، القرار، الموقف.
فالموقف هو التاريخي، وهو الذي يجعل “النواب” تاريخيين، اليوم،
هو الذي يرفعهم إلى دور “المنقذ”، ماسحاً عن وجوههم غبار مواقف سابقة يحبون ويحب الناس أن تنسى فلا يذكرها أحد.
إنهم، بهذا الموقف، يدخلون إلى التاريخ، في حين يخرج منه مرذولاً جنرال الحرب وسائر أمرائها والمنتفعين بها،
إنهم يتصدون لمهمة تاريخية جليلة، حتى وإن لم يدرك بعضهم أو جلهم أبعادها: إنهم يسقطون بأصواتهم وتلك الأوراق الهزيلة المعبرة عن حق الاختيار، حق الانتخاب، الحق بممارسة الحرية والديموقراطية ولو بأوهى أشكالها، حكماً عسكرياً يهدد البلاد بدمار شامل،
إنهم يسقطون دكتاتورية تجيء في غير زمانها وفي غير مكانها، إن كان للدكتاتورية مكان أو زمان،
لعلها دكتاتورية رجعية، كالليمون الرجعي، يجيء في غير موسمه فيبهر الناس بزهره الكثير ثم لا ينتفعون بثمره “الناشف”،
وهم يسقطون، مرة وإلى الأبد، خطر التقسيم الذي يحوم شبحه حول البلاد منذ أمد بعيد، مقيماً المؤسسات والتنظيمات والأيديولوجيات التي لا تستطيع أن تنكر كون ميشال عون ابناً شرعياً لها.
وهم يفتحون الباب وسيعاً أمام فرصة الإنقاذ الأخيرة ممثلة بالحل العربي معززاً بهذا التأييد الدولي الواسع النطاق والذي عبر عنه بفصاحة ملفتة يوم أمس السفير البابوي في بيروت، ناهيك بالمواقف الدولية الحازمة التي صدرت عن عواصم القرار في الشرق والغرب،
لكأنهم يلخصون العالم، بقواه المتعددة، هؤلاء النواب المتهالكون بفعل السنين وتجاربها المرة،
لكأنهم يختزلون، بموقفهم اليوم، التوجهات التي تهز العالم وهي تنتقل به من الأنظمة المطلقة السيطرة – رأسمالية كانت أو شيوعية – إلى أنظمة ذات تمثيل شعبي أوسع نسبياً، عبر توسيع هامش مشاركة الجماهير في صنع القرار الخاص بغدها.
والنواب بموقفهم اليوم لا يردون على “الجنرال” ولا ينتقمون منه، هو من وضع نفسه في طريقهم، وهو من تحداهم وألغاهم وأهانهم بما يمثلونه وليس فقط بأشخاصهم،
وبرغم ذلك فهم ينتقمون لأنفسهم وللناس من جنرالات الحرب جميعاً، ومن التقسيميين جميعاً، ومن أعداء أي قدر من الحرية وأي شكل من أشكال الديموقراطية وأي حق من حقوق الإنسان.
وهم، لهذا كله، مدعوون اليوم لأن ينتخبوا من يرون فيه نقيض “الجنرال”: يذهب بهم وبلبنان إلى السلام لا إلى الحرب، إلى الوحدة لا إلى التقسيم، إلى الحرية لا إلى الدكتاتورية، إلى الوطنية (ولو بحدها الأدنى) لا إلى الطائفية بحدها الأقصى، وهي هي الحرب الأهلية.
لعلهم اليوم، وأكثر مما كانوا على امتداد نياباتهم، أداة التعبير عن إرادة الناس في إسقاط الحرب والمحاربين،
لعلهم اليوم في اللحظة الأكثر صدقاً في الانسجام مع النفس: مهزومون مقرون بهزيمتهم، ولكنهم يحاولون إقامة سلام وطني على قاعدة إن انتصار طائفة على أخرى مستحيل وإن الانتصار على الطائفية، في المدى المنظور مستحيل.
لعلهم اليوم يصنعون نصرهم اليتيم،
وهو نصر وطني عام، لكل “مهزوم” من اللبنانيين فيه نصيب،
وليكن، الله مع الرئيس الجديد للجمهورية العتيقة التي يعاد تأسيسها الآن عبر الحرب التي يشنها عليها أهل النظام القديم، أبناء الأمس أعداء الغد،
ليكن الله مع “المدني” الذي أسقط “الجنرال”، بالقوة الخارقة لفهم حقائق التاريخ والجغرافيا، حقائق الحياة، وبعد ذلك تأتي إرادة “الشعب”، وإرادات الدول عظمى وعادية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان