فلسطين أكبر من تونس، لذلك لا يمكن أن تكون فلسطين هذه العائدة اليوم من تونس إلى أريحا،
بل إن الذي بقي في تونس من فلسطين والفلسطينيين وثورتهم أكثر من هؤلاء “العائدين” ليكونوا شرطة أو إدارة مدنية تعطي الاحتلال أكثر مما تأخذ منه وتأخذ من فلسطين أكثر مما تعطيها.
يكفي أن نستذكر “أبو جهاد” و”أبو أياد” و”أبو الهول” وسائر الشهداء على أرضها.
فالذي ترك بيروت إلى تونس عبر أوروبا، معلناً أنه في الطريق إلى فلسطين، قد استهلك في رحلة لاذهاب ثم في رحلة الإياب ما كان يحتاجه فعلاً “داخل” فلسطين، وما كانت فلسطين بحاجة إليه، في الداخل والخارج.
لكأنه اختار يومها أن يعود وحده، وأن يعود إلى مكان آخر غير فلسطين التي يعرفها الناس والتي من أجلها استشهد من استشهد وضحى من ضحى وما بدلوا تبديلاً.
الأعظم سعادة من عرفات العائد وحيداً هو الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي أدخل إسرائيل إلى تونس باسم فلسطين، وكجزء من ثمن عودة من عاد، وهكذا فقد ربح الدنيا والآخرة: شكر القيادة الفلسطينية وتنويه القيادة الإسرائيلية، بغير أن يخسر تأييد التوانسة الذين اختلط عليهم الأمر فلم يعودوا يستطيعون التفريق بين “الأعداء” الذين تحولوا في غمضة عين إلى “أصدقاء” و”حلفاء تاريخيين” في وجه المعترضين على غزة – أريحا.
بوسع خصوم عرفات أن يوجهوا إليه الكثير من السهام المسمومة وأن يتهمون بأنه أضاع بعض فلسطين في الأردن، وبعضها الآخر على الطريق إلى لبنان، ثم أضاع معظم ما تبقى بين لبنان وسوريا، فلما غادر إلى تونس لم يكن معه منها إلا القليل، فلما عاد إلى طرابلس أضاع معظم ما كان تبقى،
ومن أجل الوصول إلى تونس كان لا بد أن يدفع “رسم المرور” عبر أوروبا، ثم لما قرر الوصول إلى الولايات المتحدة وعبرها إلى إسرائيل، كان عليه أن يتخفف من مزيد الأحمال الفلسطينية، وهكذا انتهى به الأمر في أريحا، إذ أن غزة كانت معروضة على من يقبلها، وهو قد أخذها من “الانتفاضة” التي كانت قد بدأت تستعيد فلسطينيي الداخل إلى فلسطين، وتفتح أبواب “الداخل” امام من يريد أن يجدد فلسطينيته بالثورة ولو في الخارج.
بوسع عرفات أن يرد باتهام الآخرين بأنهم كانوا دائماً يجبرونه على التخلي عن بعض فلسطينه، أما بالمزايدة عليه بالشعار القومي، وأما بالمناقصة عبر السياسة القطرية التي تقبله كلاجئ وترفض ثورته، وتحرضه على الانحراف فإن تردد سبقته إليه بحجة حماية مصالحها أو أرضهأ: فثورة فلسطين تفتح الأبواب أمام الاحتلال الإسرائيلي ولا من يحمي الحمى!
قبل ثلاثين سنة، كانت قيادة حركة فتح، وياسر عرفات أبرز رجالها، تنادي بسياسة التوريط: توريط الأنظمة العربية في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، حتى لو لم تكن مستعدة لمثله،
كان رجال فتح، وبينهم عرفات، يقولون: التوريط بدلاً من التفريط!
وكانوا يدافعون عن منطقهم الكياني هذا بما مفاده: ليس أي قطر عربي أغلى من فلسطين، فمن فرط هناك يجب أن يورّط في حرب مع إسرائيل حتى لو أدى ذلك إلى ضياع بعض الدولة التي يحكمها! هل كتب علينا وحدنا أن نشرد وأن نعيش عمرنا كله في المخيمات ننتظر حسنات وكالة الغوث الدولية؟!
اليوم يستطيع العائد من تونس أن يتباهى بأن معظم الدول العربية قد ارتكب الخطيئتين معاً: ففرط وتورط، أو أنه تورط ففرط، أو أنه فرط فتورط!
ويستطيع العائد من تونس أن يلتفت إلى “أقرانه” من الملوك والرؤساء العرب متحدياً: من كان منكم بلا خطيئة “فلسطينية” فليرمني بحجر،
لكن ذلك لا يزيد شبراً واحداً في مساحة المستعاد من أرض فلسطين.
لقد تورط الجميع، ففرط الجميع، لكن فلسطين هي الخاسر الأكبر، بل أن فلسطين خسرت مرتين: في الداخل، ثم على المستوى القومي، فكل ما خسره “العرب” خسارة من رصيدها.
وأريحا مهمة جداً للعائد إليها من الثورة ليكون حرس حدود،
لكنها ليست بالقطع أهم من فلسطين التي كانت وستبقى باتساع الوطن العربي كله.
في أي حال، فالمؤكد أن شعب تونس يعيش لحظة فرح وهو يشعر أنه قد أدى قسطه للعلى بشهادة العائد وحيداً إلى أريحا الملعونة يهودياً وغير المقدسة عربياً والتي لم تكن أبداً ولن تكون فلسطين!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان