فرنسوا ميتران مسكون بهاجس التاريخ.
إنه يحاول دائماً تجاوز “السياسي” إلى “صاحب الرسالة”، ويهتم دائماً بما يبقى منه للغد مع حرصه الثابت على ألا يضيع منه اليوم ومتعه الكثيرة.
وخطوته الشجاعة في كسر الحصار المفروض على شعب البوسنة والهرسك، واقتحام مطار سراييفو التي يتعرض أهلها لحملة إبادة جماعية في وضح النهار، تأتي في سياق نهجه حيث يتجاور مكيافيلي ودون كيشوت في إطار “ثقافي” باهر يميزه عن سائر الرؤساء بمن فيهم خصمه ومثله الأعلى ومصدر عقده النفسية الجنرال شارل ديغول.
على أن في هذه المغامرة المحسوبة جيداً ما يتخطى دلالاتها الأخلاقية والرغبة الشخصية في التميز والفرادة: فيها تعبير فج ومباشر عن قلق الأوروبيين على أوروبا.. “هم”.
إن فرنسا الطامحة دائماً إلى لعب دور ريادي في بعث عظمة أوروبا عبر وحدتها تستشعر الآن، كما سائر الأوروبيين، خطراً جدياً على المشروع – الحلم،
ومع وعي الأوروبيين بطبيعة هذا الخطر ومصدره فإن حاجتهم إلى الولايات المتحدة الأميركية تجعلهم “يجهلون” الفاعل، ويتحدثون عن المأساة اليوغسلافية وكأنها من صنع أشباح هبطت فجأة من المريخ، أو من فعل زلزال أرضي لا راء له ولا متسبب فيه.
وهكذا فإن الشجاع من القادة الأوروبيين هو ذلك الذي يلجأ إلى “سلاح الموقف” بدلاً من المواجهة المكشوفة والتي لا يستطيع أحد أن يتحمل أعباءها ومسؤولية النتائج.
وبمعنى ما فإن في خطوة ميتران الرمزية شجاعة سياسية مموهة بذرائع أخلاقية وإنسانية: “لقد جئت إلى هنا لكي أرى بنفسي وأتابع وأعرف”.
وهي خطوة يمكن تسويقها عند الفرنسيين أولاً، ثم عند الأوروبيين، وعند المسلمين والعرب عموماً، مع تجنب الاستفزاز المباشر للولايات المتحدة الأميركية التي انتبهت فجأة إلى المذابح المنظمة ضد مسلمي البوسنة والهرسك فقررت أن تبعث إليهم ببعض الشاش والقطن “متى سمحت الظروف الأمنية”…
لقد قدم ميتران للفرنسيين صورة جديدة “لرئيسهم الشجاع”، فهو لم يكتف بإيفاد “الفدائي” كوشنير بل ورافقه أيضاً إلى حيث تتساقط القذائف والصواريخ فتحصد النساء والأطفال والشيوخ في بيوتهم المهدمة.
كذلك فهو أضاف إلى رصيد فرنسا المعنوي في نضالها من أجل وحدة أوروبا وأهليتها – بالتالي – لأن تكون “القائد” وليس “بعض” القيادة.
أما بالنسبة للعرب والمسلمين المشغولين بحروبهم الأهلية المتعددة الجبهات فإن هذه الخطوة تزكي فرنسا – الدولة والشركات – وتعطيها حق الدولة الأكثر رعاية في التزامات إعادة الإعمار وبناء ما هدمته الحروب في بلادهم ومن بلادهم.
على أن بعض الأسئلة تفرض نفسها، هنا، ولو من باب التداعي المنطقي، وبينها:
ألا يستحق أبناء فلسطين المحاصرون تحت الاحتلال منذ سنوات ، مثل هذه الالتفاتة أو المبادرة الرمزية، برغم شجاعتها؟!
إن قطاع غزة، على سبيل المثال، يتعرض للسحق، بعدما عزله جيش الاحتلال الإسرائيلي عن سائر أرجاء فلسطين وكاد يمنع عن أهله الصابرين حتى الهواء.
ومع كل شمس جديدة يسقط المزيد من الشهداء أمام بيوتهم، أو حتى داخل بيوتهم، بينما تعاني الأكثرية الساحقة من أبناء غزة المجاهدة من الجوع لنقص الغذاء وانعدام فرص العمل،
ألا تستحق غزة أن “يقتحمها” رئيس أوروبي، مثل فرنسا ميتران، محتجاً على حصارها، مطالباً بفك الطوق الناري إنقاذاً لأطفالها الذين يطحنهم فقر الدم؟!
للمناسبة: ألا يجوز أن يطالب الرئيس المصري حسني مبارك بخطوة في غزة مماثلة لخطوة ميتران في سيراييفو؟!
إن مصر تتحمل مسؤولية معنوية عن قطاع غزة الذي كان تحت الإدارة المصرية حتى وقع الاحتلال الإسرائيلي في 5 حزيران سنة 1967،
كما أن مصر مرتبطة مع إسرائيل بمعاهدة صلح منفرد (كمب ديفيد) ، وهي ليست في حالة حرب، وتملك بالتالي هامش مناورة يمنح تحول مثل هذه المبادرة إلى “عمل حربي” أو حتى إلى “عمل عدائي”.
بوسع حسني مبارك إدراج عمله في إطار الحرص على كمب ديفيد، والتحقق من التزام الطرف الإسرائيلي بتعهداته، كما وردت في المعاهدة سيئة الذكر.
ولكن… قاتل الله الفتنة ولعن الله من أيقظها
نسينا أن الرئيس حسني مبارك “غارق لشوشته” في محاولة إطفاء نيران الفتنة التي يشعلها “مجهولون” تارة في الصعيد وطوراً في “الوجه البحري” وغالباً في القاهرة، والتي تنشر صورة دموية لهذا الشعب العربي الطيب.
ترى من الذي أفسد على المصريين صورتهم الأولى؟!
تساؤلات فلسطينية
نجح إسحق رابين بين “العرب”، وبأصوات معظم حكامهم، قبل أن ينجح بين الإسرائيليين وبأصوات أقل من نصف ناخبيهم.
ولقد كان “الصوت الفلسطيني” مرجحاً، كما يحب بعض الفلسطينيين أن يقولوا.
يضيف هؤلاء أن أول ثمرة جنودها هي ذلك اللقاء العلني الذي تم في عمان بين رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات وبين بعض “وفد الداخل” الفلسطيني إلى المفاوضات المباشرة مع الإسرائيليين (د. حيدر الشافي، حنان عشراوي وفيصل الحسيني).
ويقول هؤلاء إن فلسطينيي الداخل قاب قوسين أو أدنى من مشروع الحكم الذاتي، ويستشهدون بتصريح لإسحق رابين وعد فيه بمنح الحكم الذاتي خلال سنة، ويروج البعض أن المفاوضات حوله ستبدأ في أول تشرين الأول المقبل.
لكن التطور الإسرائيلي الجديد يطرح مجموعة من التساؤلات التي لا يكفي للإجابة عليها القول بأن واشنطن “المنتصرة” الآن عبر رابين، “ستعطي” الفلسطينيين ما كانت تمنعه عنهم من قبل.
وأول التساؤلات عن اختفاء أي كلام فلسطيني عن “حق العودة”.
لقد أثار مسلك واشنطن، قبل بضعة أسابيع، عاصفة لها وظيفتها حين لوحت بالقرار 191 الذي ينص على حق العودة. وكان لافتاً أن يصمت كل من اشتهر بالثرثرة من القيادات الرسمية وشبه الرسمية الفلسطينية عن “تصيد” زلة اللسان الأميركية هذه واستغلالها في سياق المواجهة المفتوحة مع الإسرائيليين،
وقيل، في مجال التبرير، أن ثمة “اتفاق جنتلمان” مع قيادة المنظمة بأن “تسق الحديث عن حق العودة، “فالداخل لأهل الداخل” ومن هم في الخارج يتوطنون حيث هم في الخارج، ولا مجال لعودة أي فلسطيني ممن فرض عليهم النزوح في العام 1967″.
أما ثاني التساؤلات فهو عن أسباب قوة الداخل وعلاقته بالخارج… بمعنى آخر: هل إذا ما “شتدد” الخارج وظل في شعاراته “الثورية” يسيء إلى أهل الداخل فعلاً؟!
بالمقابل: هل إذا فرط الخارج بالداخل يكون قد أضاف إلى قوة الداخل التفاوضية أم أنه بذلك يحسم من هذه القوة المحدودة ويتسبب في هدرها؟!
الحرب الأهلية.. العربية
في العديد من الأقطار العربية يمكن لأي دارس أن يرى (على الطبيعة) كيف يحاول النظام القائم اغتيال الغد بعدما تسبب في تدمير الحاضر وفي الإساءة إلى الماضي وتعهيره.
إن النظام القائم لا يتكفي بحماية نفسه من خصومه المحتملين، بل هو يحاول اجتثاث أي بديل محتمل ولو بعد أجيال.
إنه ينفذ سياسة “أنا أو لا أحد، أو “أنا ومن بعدي الطوفان”، بالمعنى الحرفي للكلمة.
إنه يفرض العقم على بلاده، فهو آخر من أنجبت، ولا يجوز لها أن تحمل بغيره.
إنه يدمر الأحزاب والنقابات والاتحادات وحتى النوادي الثقافية. يلغي الصحافة تماماً ويجعل من وسائل الأعلام الرسمية أجهزة تجهيل، فهي تقزم العالم بحجم سيدها، وتجعله مركزاً للكون، وتشطب كل ما لا يتصل بشخصه أو أسرته الكريمة. ما لم يقله لم يقل، وما لم ينجزه لم ينجز، وما لم يفعله لم يتم… ما قام به الآخرون أقل قيمة من أن يشار إليه ولو بكلمة، وما قاله الآخرون خارجاً عن دائرة ضوئه الباهر ليس أكثر من لغو لا يستحق أن يبث أو ينقل بالصوت والصورة الملونة!
بعض النماذج الفاقعة يمكن متابعة وقائعها عبر مجريات الأحداث في الجزائر ومصر واليمن والسودان إلى حد ما،
قد يكون البديل الذي يطرح نفسه أسوأ من الحكم القائم… لكن مطاردته بالقتل والعمليات البوليسية والتشهير الإعلامي لن تسقطه وحده، بل هي – بما فيها من وحشية وقصر نظر واستغباء للناء – تسيء إلى البلاد ذاتها، إلى تراث شعبها في ماضيه وإلى أحلامه في مستقبله.
إن ما يقع لمن يسمون بـ “الأصوليين” في الجزائر ومصر على وجه الخصوص يسيء أولاً، إلى صورة مصر والجزائر، ويشوهها حتى في عيون المصريين والجزائريين.
إن الأمر يتعدى قمع اتجاه معارض، إنه اغتيال لآخر ما تبقى من كرامة الإنسان العربي، حتى لا نقول حقوقه.
بل إنه اغتيال لجدارة الحكم القائم ذاته، فطالما أنه لا يستطيع أن يقوم إلا على اسنة الرماح فمن أين له، إذن، الشرعية؟! وطالما أنه يفرض الدم لغة للحوار فلماذا ينكرها على خصومه؟!
ثم إن النظام يتسبب في تحويل الاعتراض السلمي، كتابة وقولاً وتنظيماً، إلى حرب أهلية،
كأنه يحتمي بالحرب الأهلية، فهي ملاذه الأخير!
وكيف بغير الحرب الأهلية تذهب أنظمة جاءت بها الحرب الأهلية؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان