من المسجد – الجامع انطلقت ثورة الجزائر، وها هي هذه الثورة بعد أقل من أربعين عاماً ترجع كأنما لتنتحر عبر الصدام مع المسجد – الجامع!
أوائل الثوار من الجامع انطلقوا ، وكان بعض المستنيرين من الأئمة هم من فتح عقولهم وقلوبهم وملأهم بالعزم فحملوا السلام وانطلقوا إلى الجبل ليعتصموا فيه، ثم ليتخذوه منطلقاً لعملياتهم الفدائية التي سرعان ما تطورت فغدت ثورة تحريرية قومية شاملة تعتمد “الجهاد” دستوراً ومنهجاً.
وجيش التحرير الوطني الجزائري هو ابن شرعي للجامع بقدر ما هو ابن شرعي للثمرة البكر لهذا الجامع: الحركة الثورية التي حملت اسم جبهة التحرير الوطني الجزائري.
ها هو الجندي المتحدر من صلب الثائر يدير بندقيته إلى صدر أبيه وينتحر بقتله على باب الجامع أو في صحنه أو حتى عند المحراب!
ها هو الجيش يلغي تاريخه، ويطلق دباباته لتسحق بجنازيرها الصفحات المشرقة التي خطها بدمه على امتداد الخمسينات.
ولا أمل لجيش يتصرف بهذه الطريقة الخرقاء في أن ينتصر،
… وانتصاره، في أي حال، أبأس وأعظم كلفة وأفظع نتائج من هزيمته.
والقيادة السياسية التي تزيد للجيش اقتحام الجامع تفتقد إلى الحد الأدنى من العقل…
والتجرؤ على المحرمات ليس دليل بعد نظر أو حنكة سياسية أو شجاعة.
فخارج الجامع تصبح الجزائر يتيمة، وأقرب إلى اللقيط.
إن الجامع هو نسب الجزائر وحسبها، هو عنوان هويتها ورمز كرامتها وعرين وطنيتها وليس مجرد مكان للسجود والصلاة والاستنجاد بالأولياء الصالحين لكي تغفر الخطايا.
وفي المواجهة (السابقة!!) اندحرت الدبابات، على كثرتها، وصمد الجامع، برغم أنه كان متواضع البناء وقصير المئذنة لأن المستعمر الفرنسي كان يرتعد من دوي الهتاف الثوري “الله أكبر” وهو يتصاعد هديراً لإرادة التحرير والعودة إلى الجذور وتوكيد الانتماء إلى الذات وليس إلى الغير، والذات هو “العربي – المسلم” وليس “الرومي”.
إن الحكم الانقلابي في الجزائر يتصرف بكثير من الرعونة، ينقل معركته من مواجهة مع طرف سياسي هو جبهة الإنقاذ الإسلامي إلى مواجهة مع الجزائر عبر جامعها الجامع.
فكل أسبوع عليه أن ينشر جيشه لاستعادة الجامع من الشعب، وهكذا يخسر الشعب والجامع، ويظهر وكأنه خارجهما معاً.
ولن ينفع الجامع المفرغ من أهله هذا الحكم المفرغ من أي مضمون يبرر وجوده، في شيء، بل سيكون شهادة ضده.
وسينتهي الحكم الذي يحاصر الآن الجامع رهينة محاصراً ومحصوراً في الجامع وينتهي فيه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان