الديموقراطية الأميركية غير قابلة للتصدير، فهي للداخل فقط، أما الخارج فله المخابرات المركزية الأميركية والمارينز وأساطيل الجو والبحر والفضاء حتى لا ننسى “السي. ان. ان”.
وهكذا لم يستطع المناضل الشيوعي القديم بوريس يلتسين أن يقتبس التجربة الديموقراطية الأميركية، ولا واشنطن ساعدته بما يكفي في هذا المضمار، فانتهى به الأمر مسخاً لدكتاتور مهجن يهرب من الحاضر إلى ما قبل ا لماضي الشيوعي بحجة ضمان المستقبل الغربي الأصيل!
كذلك لم تستطع الديموقراطية الأميركية أن تنتقل عبر جنود الوحدات الخاصة الأميركية إلى الصومال، إذ عجزت طوافات “الأباشي” عن حملها إلى جانب الصواريخ وقذائف الإبادة… وكان سهلاً بالتالي على الجائعين الصوماليين إلى الخبز والحرية والكرامة أن يواجهوا جنود “الغزو الإنساني”، وأن يسقطوا الطائرات المثقلة برسل الموت، وأن “يسحلوا” جثث هؤلاء الذين جاءوا لإنقاذهم من الجوع بالقتل الجماعي.
والمفارقة مفجعة: كيف يتم تقزيم دولة عظمى إلى حد شطبها من أية معادلة دولية، برغم مخازنها المتخمة بالقنابل الذرية والهيدروجينية، وبرغم ترسانتها الهائلة بما تحويه من آلاف الصواريخ عابرة القارات ذات الرؤوس النووية إضافة إلى أكداس السلاح التقليدي التي كانت كافية، قبل سنوات قليلة، لتسليح نصف شعوب الكرة الأرضية، إن لم يكن معظمها؟!
ثم كيف تستحضر إرادة الصمود والمواجهة لدى بعض القبائل الصومالية المتخلفة والمسحوقة والتي لم تلج عالم التكنولوجيا بعد، صورة بلد مهمل ومنسي سبق أن خربته الحروب الأهلية والصراعات الدولية، وتفرضها على العالم كله؟!
والمفارقة مذهلة: في حين يتوغل القرار الأميركي إلى داخل النخاع الشوكي في الحكم الأشوه الروسي، فإن الرئيس صانع المعجزات، بيل كلينتون، يجد نفسه مضطراً لاتخاذ القرار بالانسحاب من الصومال بعدما فشل في تطويعه بشتى أنواع “المساعدات” وأبرزها حوالى ثلاثين ألف جندي تحت راية الأمم المتحدة الأميركية بينهم أربعة آلاف جندي أميركي معززين بالصواريخ والحوامات ذات الطاقة التدميرية المرعبة؟!
لم ينجح بوريس يلتسين في أن يكون دكتاتوراً على غرار أولئك الدكتاتوريين الذين عرفتهم روسيا في حقب معينة من تاريخها قبل الشيوعية وبعدها.
… تماماً كما هو لم ينجح في أن ينقلب ديموقراطياً بين عشية وضحاها وفي حمى الصراع على السلطة: تقاسمها في البداية مع غورباتشوف، ثم تواطأ مع خصوم اليوم (الجنرال ألكسندر روتسكوي ورسلان حسب اللطيف ومن معهما) لخلع “المتقدم” على درب الديموقراطية الغربية تحت لافتة البيريسترويكا وإعادة البناء والشفافية. وأخيراً لجأ إلى التواطؤ مع بعض جنرالات الجيش “السوفياتي” لخلع البرلمانيين (السوفيات) والانفراد بقمة السلطة.
إنه ليس نتاج حركة الصراع داخل المجتمع الروسي، بل هو معطل لحركة الصراع، ومزور لطبيعة الصراع ولوجهته ولنتائجه المحتملة لو اتخذ سياقه المنطقي.
إنه أشبه بتلك الألعاب التي تنتجها تايوان وهونغ كونغ مجسدة فيها البطولات الخارقة للسوبرمان الأميركي وتكتسح بها أذهان الأطفال في العالم، لترويضهم منذ البداية واصطناع مثلهم العليا و”أبطالهم” الذين لا يقهرون.
إنه دكتاتور مرتزق.
ومن خلال “فيلم” الاستيلاء على السلطة كان واضحاً أن دور المخرج والمصور و”المخبر” و”المحلل” في الشبكة الأميركية أهم بما لا يقاس من دوره الشخصي.
وفي لحظات معينة بدا جلياً أنه إنما ينقذ “الدور المرسوم” و”يمثل” ما جاء في السيناريو ببلادة قل نظيرها.
وباختصار، يمكن القول:
إن روسيا قد خسرت الشيوعية ولكنها لم تربح نفسها في الرأسمالية.
وتتأكد يومياً تلك الحقيقة البائسة التي أعلنها “مواطنون سوفيات” من أنهم ثاروا من أجل الحرية مع الخبز، فخسروا الخبز ولم يستعيدوا الحرية.
والآن قد دخل الجنرالات كعنصر حسم في الصراع على السلطة فإن إخراجهم منها لن يكون يسيراً ولن يتم بمجرد صدور الأمر من واشنطن.
لقد أخرج يلتسين خصومه، ممن كانوا في موقع الشريك الضعيف، ولكنه بالمقابل اضطر إلى إدخال شريك قوي نادراً ما ارتضى بعدما يتمكن أن يقاسم السلطة أي “مدني” كائنة ما كانت ادعاءاته، فكيف إذا ما كان في برنامجه أن ينهي العسكريتاريا السوفياتية أو الروسية لا فرق، ليصبح جاهزاً للديموقراطية الأميركية التي لا تقبل أي شراكة في المصالح، على مستوى الكون، والتي هي غير قابلة للتصدع إلى الخارج؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان