جميلة هي الليالي الأولى من خريف المصيف الملكي في الطائف، بقمرها الذي شهدناه هلالاً وها نحن نواكب تكامله بدراً، وهو يتهادى في موكبه الجليل ينثر فضته على قمم جبل “غزوان” بهضابها والوهاد والبطاح التي تحتضن الأحياء الستة والعشرين لهذه المدينة التي جاءها الرسول العربي حين هاجر بالدين الحنيف من الجاهليين في مكة إلى “الأنصار” والمهتدين في يثرب التي نورها الإسلام.
وممتعة هي المسامرات في قصر المؤتمرات الغالبة أناقته على فخامته، والذي طالما تأمله الصحافيون من الخارج ونادراً ما تسنى لهم ولوجه والانخراط في “برج بابل” القائم بين جنباته بغير سياق محدد وبغير نتائج ملموسة بعد أحد عشر يوماً من الجدل العقيم.
ومسلية هي صور “البرلمانيين اللبنانيين” يلتقون بعد طول افتراق، ويستعادون ويعاد إليهم الدور بعد طول إهمال، فينشطون ويستعيدون عادات منسية كالخطابة والكتابة والكولسة والتكتكة والمناورة واستذكار نصوص الدستور المهجور والفتاوى المفصلة على المقاس أو الجاهزة للاستعمال، وأخيراً الهمس في آذان من بيدهم الحل والربط والتبرع بالاستشارات والسعي بالخير، طلباً للخير… في بلاد الخير!
ومسلية أيضاً صورهم في أسواق الطائف، يتجولون وحراستهم أن أحداً لا يعرفهم وطمأنينتهم تنبع من كون “المخيفين” في البعيد البعيد… يتبضعون أو يتفرجون على الذهب في الواجهات، ويتنشقون العطور والمسك وأعواد الطيب والبخور المحروق.
لكن المشكلة هي المشكلة والحل هو الحل، ولا رابط بينهما حتى الآن، لكأنهما المتوازيان اللذان لا يلتقيان!
والمشكلة سياسية لكن عمقها طائفي، أو هكذا أريد له أن يكون،
والحل طائفي، لكن عمقه سياسي، أو هكذا أريد له أن يكون.
فالموارنة الآن موارنة، يشدون إليهم بالمصلحة أو بالرغبة وربما أيضاً بشيء من الترهيب، سائر المسيحيين،
والمسلمون مسلمون، من حيث المبدأ لكنهم عند الاقتراب من الحصص يفترقون سنة وشيعة في حين يعلي الدروز راية مشروعهم الأثير: مجلس الشيوخ!
طبعاً هناك استثناءات في كلا “المعسكرين”، لكن “المصيبة تجمع” و”الدم يحن” والقاعدة الجاهلية ما تزال مراعاة: أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب.
مع ملاحظة إن “الغريب” قابل للتبدل حسب موضوعات النقاش!
مسامرات المصيف الملكي في الطائف لا تختلف كثيراً عن “الثرثرة” فوق بحيرة ليمان السويسرية، سواء في فندق “الانتركونتيننتال” بجنيف أم في فندق “البوريفاج” بضاحية أبشي المنتهية بالبحيرة في لوزان.
المشكلة هي المشكلة والحل هو الحل، ولا لقاء ولا رابط بينهما، حتى الآن.
لقد اختلفت الوجوه إلا أقلها وتبدلت الأسماء، لكن جوهر الموضوع باق، والجدل البيزنطي يكاد يتكرر بالحرف، وإن كان يفتقد – بسبب التكرار الممل – جدته والحرارة.
بل لعل جدل هذه الأيام والليالي المقمرات في الطائف نسخة منقحة ومزيدة من ذلك الجدل الذي أودى بهيئة الحوار الوطني الطيبة الذكر، التي شكلت فاصلاً أو هدنة هشة وقصيرة بين جولتين من جولات “حرب السنتين”،
المشكلة هي المشكلة: الطوائف وحصصها مع مراعاة التوازن الدقيق اللازم لتعشيق القطع المتناثرة من الزجاج الملون التي تم تركيبها، ذات يوم، فكان لبنان.
والطوائف نوعان: طائفة عظمى تحتكر السلطة وتهيمن على مراكز القرار في البلاد، وطوائف ملحقة أو ملتحقة تطالب بالواجبات كاملة ولا تعطى من “الحقوق” إلا أقلها، في ظل تشكيك دائم بولائها للكيان الخالد كوطن نهائي،
لا الطائفة العظمى تريد أن تعطي، بحجة خوفها الأبدي (!!) من الأكثرية، ولا تريد أن تتنازل عن بعض امتيازاتها بما يكفل لسائر الرعايا أن يتمتعوا بحقوق الإنسان،
ولا الطوائف الأخرى بقادرة على انتزاع “حقوقها” بالحوار، ولا هي تريد الحرب لأن الحرب تصير فتنة، والفتنة تجيء بالأجنبي وتذهب بالبلاد وأهلها،
والحوار قابل للتحول إلى مساومة وإلى بازار مفتوح، وهو ما أن يتركز على الموضوع الأصلي حتى يجد من يتبرع بتفريعه، فإذا الطوائف جميعاً في اشتباك يضيع معه سياق الحوار ومن ثم نتائجه المتوخاة.
في الماضي كان شعار الطائف العظمى، الأمن قبل الاصلاح،
ومع الأيام تبلور في صيغة محددة: إنهاء الوجود الفلسطيني المسلح قبل الاصلاح.
أما بعد الغزو الإسرائيلي في صيف 1982، وبعد صعود الأشد تطرفاً في الطائفة العظمى على قمة السلطة فقد غيب موضوع الاصلاح وأغرقت “الدولة” وجيشها في مسلسل من الحروب ضد الطوائف الملحقة والملتحقة، المعارضة والمعترضة لمحاولة تقنين التحالف الكتائبي – الإسرائيلي وتشريعه عبر اتفاق 17 أيار الشهير!
وفرض على اللبنانيين أن يعيشوا حروباً متصلة لم تتوقف – مؤقتاً – إلا بعد إسقاط اتفاق العارذاك، وبعد المساومة المعروفة التي أعقبت مؤتمر لوزان وأنجبت “حكومة الوحدة الوطنية” التي اغتيلت مهمتها بعد شهور قليلة من قيامها، ثم اغتيل رئيسها الشهيد رشيد كرامي، قبل أن يتم القضاء على “الدولة” ومؤسساتها جميعاً بتعطيل الانتخابات الرئاسية، في آب ثم أيلول 1988، والتي كان يمكن أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من الجمهورية اللبنانية المهيضة الجناح.
واليوم ترفع الطائفة العظمى شعار: إنهاء الوجود العسكري السوري قبل الاصلاح،
ويقبع “الجنرال” في الملجأ الجمهوري ببعدا، محتجزاً الطائفة العظمى بالتطرف رهينة، بينما تحتجز الطائفة البلاد بأسرها رهينة وتهددها في مصيرها والوجود.
المشكلة هي المشكلة والحل هو الحل، ولا رابط بينهما حتى الآن.
يطرح مشروع اللجنة العربية الثلاثية للوفاق الوطني في لبنان، فيهرب من لا يريد حلاً من الاصلاح السياسي إلى الانسحاب السوري، مع إدراكه الواعي أن الصيغة التي توصلت إليها اللجنة – بعد جهد جهيد – هي أكمل ما يمكن الوصول إليه، في ظل الظروف المحلية والعربية والدولية القائمة.
فإذا ما فرض المنطق على الجميع ضرورة التسليم بأولوية الاصلاح السياسي، بدأت المماحكة التي سرعان ما تتحول إلى سفسطة وجدل عقيم، يرافقه “بازار” جانبي يشبك الطوائف الأخرى في نزاع حول الكوتا الجديدة القابلة بدورها لأن تصير مادة لفئة داخلية تلهي الطوائف الملحقة عن مناجزة الطائفة العظمى.
ومن بعبدا يأتي المدد لمن تنقصه ذخيرة الذرائع.
“- احسبوه واحداً من الخاطفين ومحتجزي الرهائن؟! ألا تستحق حياة الرهينة المزيد من الجهد؟! تذكروا إنه يملك ما يكفي من المدافع لتخريب أي توافق نتوصل إليه إذا استشعر أن الحل سيكون على حسابه..”.
الخطوة الأولى تليها خطوة ثانية “متقدمة”:
“- وما المانع في أن تفاوضوه وتقروا بدوره؟! لقد فرض نفسه طرفاً، بغض النظر عن رأينا فيه كشخص أو في أسلوبه أو في مبررات حرب التحرير التي شنها والتي ألحقت بنا جميعاً أضراراً غير محدودة، وأسقطت مئات الضحايا. وأوقعتنا جميعاً في هذا المأزق الخانق..”.
ثم خطوة ثالثة حذرة لأنها تستثير الريب والشكوك:
“- ولنتذكر جميعاً إن الجنرال ليس بلا شعبية، بل إن لما يطرحه شعبية واسعة إذ أن شعاراته المتطرفة تستهوي الشارع وجيل الحرب.
“على هذا وإذا كنا نريد فعلاً إنهاء الحرب فلا بد من أخذ هذا الواقع بالاعتبار”!
في البداية شخص “الجنرال” ودوره، ومن بعد شعارات “الجنرال” بما فيها “حرب التحرير”، بمسوغاتها السياسية التي يمكن تمثيرها لحماية امتيازات الطائفة العظمى!
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل، ولا رابط بينهما حتى الآن،
.. والجنرال يزداد تعنتاً، ويرفع درجة التصعيد من ملجأه في الطابق الثالث تحت الأرض في بعبدا.
ينكر على النواب شرعيتهم ودورهم، معتبراً أن اللجنة العربية التي التي اختارتهم مصدراً للشرعية، مسجلاً عليهم إنهم ارتضوا أن يضطلعوا بهذه المهمة الجليلة التي تتجاوز قدراتهم، آخذاً عليهم تجاوزهم له، محتفظاً لنفسه بحق محاسبتهم على ما قد يعتبره تفريطاً بالسيادة.. واستطراداً امتيازات الطائفة أو ضماناتها التي تحولت بمرور الزمن إلى حقوق غير قابلة للنقض!
أكثر من هذا: إنه يرد على المناشدات العربية بغلظى، ويتطاول على اللجنة العربية الثلاثية المنبثقة عن القمة العربية والمكلفة منها بتنفيذ قرارها حول لبنان، ويوجه اللوم إلى “الأشقاء” الذين تخلوا عن لبنان فلم يناصروه في “حربه”، معتبراً أن الاصلاح بوسعه أن ينتظر ريثما يفرغ الجنرال من “تحرير” البلاد وتوفير السيادة لها، فإذا ما صار اللبنانيون، أسياداً وأحراراً فسيكتشفون إن لا حاجة بهم إلى الاصلاح وإلى من يصلحون!
وفوق هذا: يبلغ بعض الدبلوماسيين الأجانب في بيروت إنه لن يمكنهم منه ولن يسمح بأن يلدغ من حجر واحد مرتين، وإنه لن يقبل بأن “يبلعوه” وثيقة الوفاق الوطني كما سبق لهم أن بلعوه خطة النقاط السبع التي حملها ونجح في “تمريرها” فدائي اللجنة العربية الأخضر الإبراهيمي.
المشكلة هي المشكلة، والحل هو الحل،
والجو هنا في الطائف خانق: طوائف، طوائف، طوائف،
لا حديث إلا عن الطوائف،
لا حقوق إلا الطوائف،
لا مكانة ولا دور إلا للطائفي، يزيد من نفوذه وتأثيره بمقدار ما ينجح في توكيد “تشدده” وتطرفه الطائفي،
من اين يجيء الاصلاح إذن، وكيف له أن يتسلل من بين حواجز الطوائف وأنى له أن يعيش في هذا المناخ المسموم؟!
… ويبقى القرار للجنة العربية التي أعدت وثيقة للوفاق الوطني يصعب تعديلها ويستحيل رفضها على كل من يرغب في إنهاء الحرب، لأية طائفة انتمى، بما في ذلك الطائفة العظمى،
فليس كل من انتمى إلى الطائفة المارونية “محارباً” أو رافضاً للاصلاح السياسي بالمطلق، أو “مناضلاً” – كالجنرال – من أجل استمرار الحرب حتى لا يبقى في لبنان لبناني واحد.
وليس كل من انتمى إلى الطوائف الأخرى، إسلامية كانت أم مسيحية، إصلاحياً عظيماً لا يرضى عن إسقاط النظام الطائفي بديلاً.
إنهم “منتمون” إلى العالم الطائفي، يفكرون طائفياً ويتحركون طائفياً ويبحثون عن تسوية طائفية، لا أكثر،
لكنهم لم يهتدوا، بعد، إلى الطريق، لأن خوفهم على الطائفة ومنها يكاد يغطي على أبصارهم والبصيرة، فإن اهتز الخوف أو تناقص بفعل التطمينات العربية – الدولية حولوه إلى ذريعة ليسدوا به طريق الاصلاح.
..يخافون من “الجنرال”، ولا يخافون على الوطن،
يخافون من تهمة التفريط عند العودة، وينسون إنهم إنما يعودون – إذا ما توافقوا – بمشروع وطن، وبوعد بالسلام، وبضمانة بالحياة للبنانيين الذين يتشهون أن يشهدوا – أخيراً – ولادة الوطن والسلام وأن تفتح لهم أبواب الحياة.
يخافون من “الجنرال” وينسون إنه هو من يجب أن يخاف، ومنهم بالذات لأنهم بالوفاق الوطني إنما ينتمون إلى الغد في حين يصبح هو من معالم الماضي،
فهو ينتهي بالوفاق الوطني في حين إنهم يولودن من جديد..
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان