الديموقراطية على الرأس والعين، لكن الطوائف أبقى وهي مصدر النعم،
وهكذا ما إن اكتمل عقد المجلس النيابي حتى تداعى النواب إلى اجتماعات على مستوى الطائفة: تلاقى الشيعة بداية في إطار المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ثم تداعى الكاثوليك، وأمس انعقد لقاءان : الأول للنواب الموارنة والثاني للنواب الروم الأرثوذكس.
في هذا الوقت كان غلاة “السنة” يحتفلون باستعادة طائفتهم موقعها كشريك أساسي في التوازن الهش لقاعدة الحكم، بعدما تراجعت موجة الصعود الشيعي في حين تهاوى الموقع الماروني الممتاز حتى من قبل الطائف.
لقد ذهبت أيام السلاح والميليشيات وجاءت أيام الأخضر الرنان (الدولار يرن كما الذهب وأكثر!!)، ومن رصيده من القطع النادر الأكثر هو الأكبر، فالعملة الصعبة تشتري المرتبة الأعلى، والثالث بين الرؤساء هو الأول، أقله في اللحظة الراهنة.
مرحباً ديموقراطية في ظل الطوائف والطوائفيين!
والمال ستار العيوب، ثم إنه فوق الأديان والطوائف والمذاهب.
وأعظم “إجماع وطني” تحقق من حول الأعظم ثروة في لبنان.
البطريرك الماروني أسقط مقولاته ومواقفه المعلنة و”كوّع” مرحباً بحكومة الحريري، وهي الثمرة الأولى للانتخابات النيابية التي كاد يلعن منظمها والداعي إيلها والمشارك فيها ترشيحاً واقتراعاًز
والبطاركة الآخرون تنافسوا في التأييد والمباركة،
ومشايخ المسلمين رفعوا الدعوات الصالحة بطول العمر وكادوا يبشرون الناس بجنة على الأرض فيها أنهار من لبن وعسل وحور العين!
المال بلا رائحة وبلا قومية وبلا دين،
ولكنه قادر على جذب المؤمنين واستنفارهم وتجنيدهم بأقوى مما تفعل الرسالة المقدسة،
ومن حظ الديموقراطية أن المال بحاجة إليها الآن، لكي تسبغ الشرعية على حكمه،
ومن حظ الطائفية، بالمقابل، إن المال لا يعاديها ولا يقاتلها، فهو قادر على توظيفها في خدمته.
وهكذا ينشأ الثالوث الظريف: الديموقراطية × الطائفية + المال = “الجمهورية الثانية” في طبعتها الجديدة.
مرحباً ديموقراطية،
والنواب المنتخبون “طازة”، وفي أول تجربة لهم، يرشحون لرئاسة أول حكومة سيمنحونها ثقتهم رجلاً من خارج مجلسهم الكريم، وهو لم يكن يوماً – بالمعنى الرسمي – على قائمة المرشحين، مقرين – علناً – بأن ليس بين الـ 128 نائباً من يستحق مثل هذا الموقع، أو تأييدهم ليكون فيه،
… ثم بعد ترشيحه يرحبون على الفور بحكومة لا يعرفون العديد من وجوهها، إذ فيها أكثر من ثلث أعضائها من خارج مجلسهم الكريم، ومن خارج دائرة حركتهم اليومية.
فإذا ما وجد معترض انصب اعتراضه على النسب في التمثيل الجهوي، أو “العدالة” في توزيع الحقائب، قافزاً من فوق وقائع “بسيطة” جداً لكنها أكثر إحراجاً للمجلس بوصفه “حاضنة الإرادة الشعبية” و”مصدر السلطات جميعاً”.
وليس كثيراً على رفيق الحريري أن ينجح في هذه التجربة،
لكن الوقت مبكر جداً لكي يتخلى المجلس النيابي عن وحدته، بداية، ثم عن دوره، وعن جدارة أعضائه الآتين باسم الشعب بأن يكونوا وزراء بينما استحق مثل هذه النعمة أعضاء مجالس إدارة في المصارف والمستشارون القانونيون لشركات المقاولات إضافة إلى أقطاب التعهدات والمقاولات المدنية والحربية.
حتى الأستاذ في الطب صار وزيراً للنفط، بينما في المجلس – ولله الحمد – الكثير ممن ما كانوا لولا النفط وخبرتهم في أسواقه وأرباحه ليتمكنوا من الوصول.
مرحباً ديموقراطية الطوائف،
فحقوق الطوائف أغلى على النواب من نياباتهم ومجلسهم،
وهم يغضبون لحيف نزل بها أكثر من غضبتهم على تهميش دورهم في اليوم الأول لولادتهم،
وبرغم الغضبة المضرية فإن الأكثرية الساحقة منهم ستعطي غداً هذه الحكومة المصفحة ثقة غير مشروطة،
ذلك إن “فوق الكتف حمال”،
وفوق طاولة مجلس الوزراء بضعة مليارات من الدولارات،
فإذا كان رفيق الحريري هو الأغنى فإن عدد الأغنياء الكبار في حكومته ليس قليلاً وثرواتهم ليست متواضعة،
والمال أقوى من الديموقراطية، لاسيما في أوساط الفقراء، فالديموقراطية لا تشتري خبزاً ولا تدفع قسطاً ولا تنزل سعر صرف الدولار.
وطريف أن نشهد غداً ممثلي الناخبين الفقراء يتسابقون لإعطاء ثقتهم الغالية بحكومة كبار الأغنياء التي ستقدمها الديموقراطية اللبنانية بوصفها أداة رفع الغبن وإنهاء الخوف وتحقيق العدالة الاجتماعية.
بكم فتحت الديموقراطية اليوم؟!
وبكم تراها ستقفل غداً؟!!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان