بعد ستة أيام من حرب أنت موضوعها يحرّم عليك الطرفان المقتتلان على “زعامتك” والقرار، أن تسأل لتعرف ومن ثم لتحدد موقفاً ولتعبر عن رأيك في الحرب الجديدة وفي طرفيها السفاحين.
إنهما لا يعترفان بك حتى كضحية: كل يأخذ على الآخر أنه لم يقر بزعامته، لكن أياً منهما لم يتوقف ولم يوقف إطلاق النار ليخسر عليك دقيقة من وقته الثمين يخاطبك فيها ويشرح لك مشروعه السياسي!!
كل منهما يرى في نفسه “مشروعك”.
كل منهما يختصر فيجسد بذاته “الشعب” و”المجتمع” و”الكيان” ، بدولة أو من دون دولة!
لا وقت لغير الحرب. وكل يعاير الآخر بتناقص “الأعداء” على قائمة الموت، ويأخذ عليه أنه أسكت المدافع وبرّد الجبهات. ولو إلى حين، ولم يقتل من الناس بما فيه الكفاية، ولم يدمر من أسباب حياتهم، ومصادر رزقهم ما يعطيه الحق في الوحدانية وفي إعلان نفسه القائد الفرد والمطلق الصلاحية.
الحرب، الحرب ، الحرب… حتى الوعد الذي يمنحانك إياه هو وعد بتبديل جبهتها وليس بالسلام.
وأنت في جميع الحالات ميدان الحرب ومسرحها، مع أنها ليست حربك، لا حيث هي اليوم ولا حيث يعدانك بأن تصير غداً.
أنت في بدايتها هدف للقتل والتدمير، وفي نهايتها غنيمة للفائز… عليك بأكثر مما هو غالب خصمه المؤقت!
ممنوع عليك السؤال إذ لا صفة لك، فطالما إنك لست تابعاً لهذا أو ذاك فأنت “عدو” محتمل، أقصى ما يمكن أن تعطاه “هدنة” في انتظار حسام “معركة القرار المسيحي”، وبعدها يتولى أمرك من يثبت – في الميدان – أنه صاحب القرار ومصدره و”صاحب الأمر” في الحال والاستقبال.
أقصى حرياتك أن ترثي مدينتك، أن تتعرف بعيونك المغشاة بالدمع على أطلال بيتك عبر رشاشة التلفزيون وهي تؤكد – كأطلال – انتصار هذا القرم على ذاك، بقدر ما تؤكد لك أنك المهزوم في عمرك الأول وإنك بحاجة إلى عمر ثان لكي تستطيع “التقدم” مجدداً في اتجاه نقطة الصفر.
ستة أيام طويلة من الحرب ولا شعار ولا قضية غير “الشخص”.
قائد واحد لا قائدان. جيش ماروني واحد لا جيشان. تقسيم واحد لا تقسيمان. دويلة واحدة لا دويلتان في قلب الطائفة الواحدة.
لكن “الجيش” الحقيقي الذي كان يدمر المدينة وبعض أجمل ضواحيها، يطفئ لبنان ويفرض العطش على أهله، ينشر الذعر في الهواء ويسكنه في عيون الأطفال، كان يتسع للطرفين المقتتلين وبوحد بينهما : إنه الحقد.
الحقد يحتل المدينة. الحقد يلغي المدينة. الحقد يكسر المصابيح ويفرض العتمة. الحقد يسمم المياه ويمنعها عن العطاش. الحقد يفجر المؤسسات التي دأبت على تنميته وتغذيته وإرضاعه لحم الناس، عقولهم، وجدانهم حتى جعلته غولاً وأطلقته في المدينة ليفترس كل ما ينبض بالحب والجمال والخير والحياة فيهاز
الحقد ينفجر بحامله. الحقد يتفجر، يتشظى، وشظاياه تتشظى من جديد حتى لا ينجو من ناره حي أو جماد.
يموت كل شيء، يتساقط كل شيء، وتبقى مؤسسة الحقد العاتية تبحث عن “هدف” جديد، وتصطنع عدواً جديداً وتجر من تبقى من الأحياء إلى حرب إبادة جديدة.
لا فرق بين أبناء مؤسسة الحقد وبين “الآخرين”،
مؤسسة الحقد لا تتوقف عن إنتاج وإعادة إنتاج الأعداء. إن افتقدتهم في “الخارج” اختلقتهم في “الداخل”.
أليس ميشال عون وسمير جعجع ابنين بارين للمؤسسة إياها؟!
أليسا شقيقين بالروح والعقيدة والمسلك “لضحيتهما” أمين الجميل، و”لقائدهما” بشير الجميل.
أليسا ابنين بارين لذلك “القديس” بيار الجميل الذي أعطى لبنان إحدى أخطر مؤسساته: المؤسسة التي استطاعت منفردة أن تدمره كله، أرضاً وشعباً ودولة ذات سيادة؟!
… ثم إن مؤسسة الحقد الكتائبية هذه استطاعت أن تستولد مؤسسات شقيقة ورديفة في الطوائف الأخرى، قبل أن تنصب نفسها “مرجعية” و”قدوة” بوصفها “الأرشد” و”الأعرق” والأرقى والأنقى بالدم الأزرق للطائفة العظمى!
ومؤسسة الحقد تموت إن هي توقفت عن إنتاج “الحروب”، ولذلك لا تتردد في تفجير أبنائها بالذات إذا هم افتقدوا “العدو” وميدان الحرب في “الخارج”.
و”العدو” قابل للتغيير تماماً كما الميدان. المهم الحرب لا أدواتها.
و”الأدبيات” جاهزة، دائماً، كما البلاغ الرقم واحد. بسرعة قياسية يمكن استبدال بعض الأسماء والمواقع في تراث المؤسسة فإذا البيانات تملأ الآذان والأثير وصفحات الصحف.
والسرقة الأدبية مشروعة، ولا بأس حتى من استعارة أدبيات “العداء” في وصف “الأشقاء” و”رفاق السلاح”. لكل زمان دولة ورجال، وكل معركة خطابها، ولكل حرب عدوها.
ستة أيام من الحرب المدمرة وما زالت “المؤسسة” تطلب المزيد من الدم والضحايا والخراب. فالحقد لا يشبع ولا يرتوي.
الكل محاصر بالكراهية، بالبغضاء، بالعداء الشامل للكل خارجه.
يدهمك الحقد من الجهات جميعاً، يجيئك من حيث لا تتوقع ولا تتصور. يجتاحك ويأخذك رهينة.
كل يحس – فجأة – أنه عدو الكل، وإنه مطالب برد العداء بعداء أشد: لا يستطيع أن يذهب إلى مكان وليس له أحد. فكل “الآخرين” يكرهونه ويتربصون به للقضاء عليه. هاجم إذن، فخير وسيلة للدفاع هي الهجوم، وسلاح الحقد يفل الحديد!
لا وقت لدى الحاقد للتفكير. وليس من حقه أن يمارس ترف التساؤل عن سبب العدائية الشاملة التي تحيط به، أو للاعتراف – مثلاً – إنه هو من اصطنعها وتسلقها سلماً إلى السلطة.
أليس باسم الحقد وبفضله صار قائداً؟! أليس الحقد شرطاً للقيادة وتوكيد “شرف” الانتماء إلى المؤسسة الوالدة.
“الرئيس الحاقد”. الزعيم الحاقد. القائد الحاقد.
وهو قائد وزعيم ورئيس لأنه الأعظم حقداً. والرعية لا تسلم بقيادته إلا إذا أكد، في كل لحظة، إن حقده مدمر أكثر من أحقاد الآخرين. إن قوة التدمير شرط الزعامة والقيادة والرئاسة. لذا فكل حريص على سلاحه، لأنه بالسلاح يبقى ويتقدم من مرتبة الزعيم إلى مرتبة “الاله”، فإذا توقفت الحرب – الحروب سقطت أسطورته وأكله أتباعه الهاتفون إناء الليل وأطراف النهار: بالروح بالدم نفديك يا… حاقدنا!!
مع الحقد، وفي ظل تعليمات مؤسسته العريقة، يتوارى الحديث عن الوطن لتبقى الطائفة باعتبارها مكمن الغرائز وولادة الأحقاد. الوطن لا يلد العداء والأحقاد. إنه بلد عشق الأرض التي تنبت الليمون وتنشر أريح زهره مع نسمة الصباح الأولى.
لكن الطائفة بقيادتها، والقيادة مقعد واحد، وشرط القيادة إلغاء الآخرين ولو كانوا توأم الروح والجسد.
وهكذا يذهب نداء “البطريرك” مع الريح، ويضطر إلى معاودته وتكراره بغير جدوى: للمرة الخامسة (العاشرة) نعلن لكم، بما لنا من سلطان روحي إنكم في حل من طاعة قيادتكم التي تأمركم بإطلاق النار على أخوانكم…
لككن السلطان الروحي ذهب من زمان ولن يرجع. الحقد الطائفي أقوى من المرجعية الروحية للطائفة.
وأكثر من يعرف السبب هو البطريرك. لكنه، لأمر ما ، لا يريد ربط السبب بالنتيجة. لعله معذور. لعله لا يستطيع أن ينسى. لعله أسير الكابوس بعد. ولذا فهو ملزم بأن يتخطى الكابوس ليستمر في الرهان على ذكريات أيام زمان.
وتبقى المفارقة فاقعة: إن المرجعيات الطائفية تحاول أن تبدو وكأنها أقل طائفية من المرجعيات السياسية – العسكرية للطائفة، في حين إنها ليست بريئة من المسؤولية عنها وعن تصرفاتها المهووسة وعن حروبها التي لا تنتهي.
ستة أيام من الحرب والمارشات العسكرية هي هي التي تنادي الموت منذ خمس عشرة سنة أو يزيد،
لكم سُخر الوطن لتبرير الحرب على وجوده؟!
ولكم كان صادقاً ذلك المواطن البريء الذي اتصل بإذاعات المتحاربين يرجوها وقف بث الأغاني الوطنية… لعله أراد أن يبرئ الوطن من شبهة العلاقة بجريمة قتله وشعبه، ولعله أراد ألا تغطي الموسيقى على فحيح الحقد وهو يجوس بين الأحياء فيبيدها بكل من وما فيها.
وفي مثل صدقه كان ذلك الضابط الذي “أسر” في المرفأ فقال إنه لم ينتقل إلى الجهة الأخرى من خط التماس الذي يمزق قلب المدينة لأنه “ابن الشرقية”!
إنه يخرج من “الجيش” حين يخرج من “الشرقية” من الطائفة… فالجيش هو جيش الشرقية لا الجيش الوطني، جيش كل اللبنانيين في مختلف أنحاء بلادهم الصغيرة.
إنه جندي في جيش الحقد على الآخرين الذي يفترض أنهم – بدورهم – حاقدون عليه. لهم جيوشهم وله جيشه، والحقد هو الرابط وخط النار.
ستة ايام من الحرب ضد كل الناس في كل مكان، وضد كل مبنى وكل شجرة، كل أصيص ورد وكل جدار، ضد السيارات والتماثيل بما فيها تمثال السيد المسيح.
ومع ذلك لم تكسر المدافع الحواجز، ولم يلغ الجرح خط التماس، وبقي متعذراً الاتصال بين الناس: “طمنونا عنكم بواسطة الإذاعة”… وإذاعات الحروب لا تطمئن بل هي وسيلة تعميم النار على الأنحاء والجهات جميعاً.
لقد تهاوت الألقاب كالكرتون: كل ألغى لقب صاحبه، فإذا العماد رئيس مجلس الوزراء يصير “نيرون”، وإذا “الحكيم” يصير “قائد المسلحين”. “الجيش” صار “جماعة عون”، و”القوات اللبنانية” صارت زمراً وعصابات تتاجر بالحشيش والهيرويين وتتصل “بالأعداء” خارج سور المقبرة الجماعية!
واندثرت الشعارات، الساقطة أصلاً، عن “التحرير” و”المقاومة” وإن بقي صاحباها واقفين حطامها يتناديان إلى تلاق على توجيه الحقد نحو “الآخرين”… فالحرب ضد “الخارج” هي مصدر السلامة والبقاء.
تهاوت الادعاءات وانكشفت الأكاذيب التي سيرت الجماهير وحيرتها بين الكرنتينا وبعبدا، وتدخلت مؤسسة الحقد الطائفي، بكل رموزها ومرجعياتها، لتعيد اللحمة بين صفوف جيشيها، مانعة الصدمة من أن تفعل فعلها في إعادة الوعي إلى من ضل السبيل،
خطر هو الوعي، ومدمر أكثر من المدافع مجتمعة.
فتاكة هي الوحدة، وشرها أعظم الشرور، لأنها تنهي المؤسسة.
فلتتحد البنادق ضد الدولة، ضد الوحدة، ضد الوطن، ضد الشعب الصامد – بعد – لداء الحقد، يقاومه ويغالبه ويكاد ينتصر عليه بقوة حقائق الحياة… بقوة حب الأرض والحياة!
ستة أيام من حرب إبادة المجتمع المسيحي، وما زال الوهم بالتميز قائماً؟!
كيف السبيل إلى أن يسمع واحدنا الآخر، بالصوت الحي، ومباشرة؟!
ألم تحن لحظة الحقيقة بعد؟!
لقد تعودنا على واحد من حالين، بامتداد زمن الحرب: أن نقول فقط، أو نسمع فقط.. وتعذر علينا الاتصال والحوار ومن ثم التوافق على قاعدة الإقرار بأن همنا واحد وحلمنا واحد، تماماً كما أن أرضنا واحدة ودولتنا واحدة.
تعودنا أن يخوض كل حربه وكأن “الآخرين” غير معنيين بها وبنتائجها، وعليهم فقط انتظار البطل المنتصر عند نهاية… مأسورة المدفع.
أما آن أن نكتشف أن الحروب ستستمر وستتصل حتى تاتي علينا جميعاً طالما لم نواجهها (بكل تفاصيلها) وكأنها حرب واحدة تستهدفنا جميعاً؟!
ألم نكتشف إننا بالكاد نكون مجتمعاً واحداً، فكيف ندعي إننا مجتمعات، ومستويات، وإن بعضنا ينتمي إلى “شعب الله المختار” والبعض الآخر وافد غريب لا يستحق حتى نعمة خدمتنا فكيف بمشاركتنا؟!
أنواصل الانتحار، ونحن نعرف أنه الانتحار، لمجرد إننا نخاف من مواجهة الحياة وأعبائها الثقيلة؟
لنأمل أن تكون “حرب الشرقية” قد اضطرت الجميع إلى مراجعة الذات، وأن تكون فتحت عيونهم على خطورة مؤسسة الحقد التي قد تبدأ بالتهام “الغير” ولكنها تنتهي بتدمير الذات… وفي أعمق أعماق “المجتمع المسيحي”!
فالغير هنا هو الذات،
وواهم من يظن أنه ليس بين الضحايا!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان