لولا بعض التحفظات الشكلية لأمكن القول إن لقاء جنيف، ليل أمس، هو أول لقاء للرئيس الأميركي مع “المنطق العربي” في أزمة الخليج ممثلاً بالرئيس السوري حافظ الأسد.
وغداً يستطيع جورج بوش أن يواجه الأميركيين ليقول لهم: لقد التقيت العرب، واستمعت إلى العرب، واعرف الآن بالضبط وجهة نظر العرب في الأمر، وسوف يكون قراري أقرب إلى الصحة لأنه أخذ بالاعتبار “الموقف العربي”.
لقد التقى جورج بوش العديد من القادة العرب، منذ انفجار الأزمة بقرار صدام حسين غزو الكويت في الثاني من آب المنصرم، آخرهم من كان ضيفاً عليهم في السعودية وفي مصر، خلال رحلته لتمضية “عيد الشكر” مع عسكره النازل بالصحراء العربية الحبلى باحتمالات الحرب كما بالذهب الأسود.
وهو قد استمع حتى الآن إلى منطقين “عربيين” متباينين تماماً: كان الأول يقول بحرب لا تبقي ولا تذر ولو تحت شعار “علي وعلى أعدائي”، في حين كان الثاني يطالب بفسحة زمنية وبمغريات مقبولة لإقناع صدام حسين بالجلاء عن الكويت من دون حرب، إذا ما استذكرنا جهد الملك حسين في هذا السياق.
وبقدر ما كان المنطق الأول محكوماً بالوتر وبالهلع الشخصي والخوف على مصير العروض والأسر الحاكمة، فقد كان المنطق الثاني محكوماً بالارتباط المصلحي المباشر بصدام حسين، انتفاعاً ومراهنة على ما بعد غزو الكويت من تداعيات وتبدلات في الخريطة قد تعيد العروش (والأراضي) لأصحابها الشرعيين، إتماماً لعملية “إعادة الفرع إلى الأصل” العراقية!
على إن المنطقين “العربيين” كانا يتلاقيان عند ادعاء الحرص على المصالح الغربية، والأميركية تحديداً، انطلاقاً من كون القائلين بهما هم بمجموعهم من “عرب أميركا” وأدواتها ومعتمديها في المنطقة العربية.
من هنا فإن لقاء جنيف وفر للرئيس الأميركي فرصة أن يسمع – وللمرة الأولى، مباشرة – منطقاً متماسكاً يعكس رؤية عربية متكاملة للأزمة، ومن موقع المعني بحلها سلمياً وليس بتسعيرها ودفعها إلى هاوية الحرب.
فحافظ الأسد له توصيفه المتميز للأزمة، وله تصوره المتميز لقواعد حلها: فهي بالأساس أزمة عربية، وإن كانت أبعادها دولية، وحلها بالأساس حل عربي وإن كان ضرورياً أن تتوفر له الرعاية الدولية.
ولقاء جورج بوش – حافظ الأسد هو أكثر لقاء مدروس ومناقش للرئيس الأميركي قبل القرار بعقده.
ولقد يكون صحيحاً إن القيادة المصرية قد لعبت دوراً في ترتيبات اللقاء، وكذلك القيادة السعودية، ولكن المؤكد إن جورج بوش قد طلبه لأنه بحاجة إليه وأميركياً بالدرجة الأولى.
فالأميركيون قد لا يحبون حافظ الأسد، لكنهم يحترمونه بالتأكيد، ويعترفون له بالمصداقية وبأهمية الدور وبالذكاء السياسي والحنكة التي أهلته لأن يدخل نادي الرؤساء الكبار.
كذلك فجورج بوش يحتاج إلى صورته جالساً إلى حافظ الأسد ليقول للأميركيين إنه ليس صديق الرجعيين العرب وحدهم، وسيئي السمعة من أمراء النفط وشيوخه والأنظمة غير الشعبية، بل هو أيضاً قادر على إقامة علاقة مع أولئك الذين ينتقدون السياسة الأميركية ويناهضونها حيث تصطدم بطموحاتهم القومية.
ولعله يريد أن يقول عبر هذا اللقاء النوعي إنه ليس ذاهباً بالضرورة إلى الحرب، وإن استكمل عدتها، وإنه ما زال يحاول تزكية الحل السلمي، الذي لا بد أن يكون عربياً، والذي لا يمكن أن يستحق مثل هذا التوصيف من دون حافظ الأسد.
ويعرف جورج بوش إن القمة العربية في القاهرة ما كانت لتنعقد أصلاً لولا حافظ الأسد، وما كانت لتوفر إطاراً أولياً لحل عربي محتمل لولا أن سوريا قد غطت تشوهاتها ورعونة المذعورين فيها بسمعتها القومية وثقلها ومنطقها غير الموصوم بمحاباة الأميركيين وموالاتهم.
ولعل جورج بوش يريد أن يتعرف عن قرب إلى هذا الرئيس العربي المتزنة سياساته والهادئة قراراته والذي بفضل حساباته البالغة الدقة حقق نجاحاً شبه مستحيل في البلد الصعب لبنان، ونسج علاقات فريدة في بابها مع قيادة الثورة الإسلامية في إيران من دون أن يفرط أو يخسر علاقاته الوطيدة مع العائلة الحاكمة السعودية، واحتفظ بصداقة حميمة مع قائد ثورة الفاتح معمر القذافي، وحافظ على الورد القديم مع الجزائر، ثم جدد بغير تعجل أسس العلاقة الخاصة جداً عبر التاريخ مع مصر…
ولعله يريد أن يتعرف على هذا الزعيم العربي الذي برغم الاختلاف الصارخ والقديم مع صدام حسين، انطلق ينادي ومنذ اللحظة الأولى بضرورة الانسحاب غير المشروط من الكويت، حماية للعراق وإنقاذاً لشعبه وإدخاراً لإمكاناته العسكرية الضخمة للمعركة القومية الأصلية على أرض فلسطين… وربما لهذا لم يشتمه العراقيون ولم يشنوا عليه الحملات الإعلامية ضمن من هاجموا وشتموا من الملوك والرؤساء العرب..
أما حافظ الأسد فيستطيع أن يخاطب العرب بالقول: لقد ذهبت إلى اللقاء ضمن السعي الحثيث لمنع الحرب وإنقاذ العراق من التدمير… وذهبت وموقفي السياسي المعلن محدد تماماً وواضح تماماً، فأنا مع انسحاب العراق من الكويت ليمكن مطالبة الأميركيين ومن معهم من الجيوش الغريبة بالانسحاب فوراً من الأراضي العربية بالكامل.
وإذا كان جورج بوش يمكنه أن يتمثل بالحكمة القائلة: عدو عاقل خير من صديق جاهل، فإن الرئيس السوري يظل قادراً على إثبات أنه “أم الولد” وممثل الإرادة العربية في إنهاء أزمة الخليج بغير حرب وبغير احتلال أجنبي مقيم للأرض العربية، وبغير تنازلات جوهرية في موضوع الصراع العربي – الإسرائيلي… فدمشق لم تتغاض ولم تسكت عن الزيادة حجماً ونوعاً في المساعدة الأميركية للكيان الصهيوني والتي حاولت واشنطن تمريرها على هامش أزمة الخليج وتحت لافتتها.
في أي حال فإن سلف جورج بوش، الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قد توجه إلى الرئيس الأسد، في اللقاء الأميركي – السوري الأول على مستوى القمة، وفي جنيف أيضاً، قبلا ثلاثة عشر عاماً بالقول: لقد جئت أتعلم منك الحكمة…
وصحيح إن السياسة الأميركية تجاه قضايا المنطقة العربية قد أوغلت بعد ذلك في الخطأ، ولكن الطرف العربي كان هو من زين الخطأ وأغرى به حتى لا ننسى تجربة السادات المرة،
بالمقابل فإن السياسة السورية قد حافظت على الخطاب القومي مع أخذها بالاعتبار مجمل التطورات التي وقعت في الوطن العربي، ثم التحولات المذهلة التي هزت العالم حين ألغت منه المعسكر الاشتراكي وحصرت زعامته بالجبار الأميركي.
وإذا كانت قليلة تلك الدول التي تستطيع القول إنها تنتهج بعد كل ما جرى سياسة مستقلة، ولو بحدود، فإن سوريا بالتأكيد هي واحدة من هذه الدول بشهادة هذا اللقاء المهم في جنيف، والذي استغرق ثلاث ساعات ونيفا ولكن آثاره ستغطي مرحلة كاملة، تماماً كما غطى اللقاء الأول المرحلة السابقة التي امتدت ما بين كمب ديفيد وغزو الكويت مروراً بالحرب العراقية – الإيرانية التي غطت على الأول ومهدت للثاني.
ولعل اللبنانيين هم أكثر العرب حساسية في فهمهم – بواقع تجربتهم الدامية – لأهمية مثل هذا اللقاء وخطورة آثاره وعمق نتائجها وتأثيراتها على “تفاصيلهم” الكثيرة.
*المستقبل آت…
لا بد من كلمة أولى عن هذه الندوة المهمة عن “لبنان وآفاق المستقبل” التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت وحشد لها نخبة من المعنيين بالهم العربي في لبنان.
ولا بد من تحية خاصة لهؤلاء “اللبنانيين” بالتطوع، ومن منطلق قومي، والمعنيين بصورة لبنان المستقبل ربما بأكثر من العديد من اللبنانيين، لاسيما قياداتهم، عنينا: الدكتور خير الدين حسيب والأخضر الإبراهيمي.
فهي مبادرة محب شجاع للبنان، وقد جاءت التلبية فوراً من المحب الشجاع الآخر، وشارك الحشد في تحويلها إلى تظاهرة فكرية – سياسية تبشر بعودة بيروت منتدى فكرياً قومياً وشارعاً وطنياً عربياً.
ولقد خرج الدكتور خير الدين حسيب اللائحة التقليدية للمحاضرين والخطباء التي ظلت معتمدة على امتداد الثمانينات تقريباً، كما نجح في نسج إطار للنقاش الجدي والرصين حول مسائل ظل “الحوار” فيها ومن حولها حربياً وعدائياً بامتداد دهر الحرب: من طبيعة النظام اللبناني إلى علاقاته بالشريكين العربيين الكبيرين والمؤثرين السوري والفلسطيني.
وصحيح إن بعض المشاركين كانوا أشبه بطفل معاق سمع الكثير ورأى الكثير وقرأ أو قرئ عليه الكثير، فظل يفتقد القدرة للتعبير عن نفسه بطلاقة،
وصحيح إن بعضاً آخر كان “يتأتى” تهيباً ونتيجة لافتقاده عادة الحور مع “الآخر”، وكانت أفكاره تجيء مقطعة ومجزأة حاملة معها أشلاء تجارب وتهويمات أحلام استولدها الحدث الذي لم يشارك فيه،
ولكن الصحيح أيضاً إنها كتجربة أولى قد نجحت إذ كشفت شوق الناس العظيم إلى الحوار، إلى التفكير بصوت عال، إلى التعبير عن أنفسهم، إلى التحرر من قيود السلاح وقهر قوى الأمر الواقع التي هيمنت طويلاً فعطلت العقول ومنعت الحديث في المستقبل.
طريق المستقبل مفتوحة في لبنان الآن… بشهادة ندوة خير الدين حسيب ومن معه.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان