جاء الأجل ولبنان غير جاهز بعد للموعد مع المؤتمر الخطير.
في البدء كان التقدير إن “مؤتمر السلام” مجرد احتمال، فلماذا إرهاق النفس بالإعداد والاستعداد، والانصراف عما يجدي وينفع من زينة الحياة الدنيا إلى ما هو ثقيل الوطأة وصعب ومكلف ومضيع لمتعة الحكم ومباهجه الجمة.
ثم قيل: وما علاقتنا بالأمر، طالما إن الإطار القانوني للمؤتمر العتيد لا يعنينا، فلا كان لبنان بين المحاربين في 1967 أو في 1973 ولا هو كان بالتالي بين من توصلوا إلى “فك الاشتباك”، وفي كل الحالات فليس له ذكر لا في القرار 242 ولا في الآخر 338، وإنما له قراره الخاص… المستحيل التنفيذ!
وفي وقت لاحق تم تعديل المنطق الرسمي فبات لسان الحال يقول ما مفاده: لماذا نموّه الحقائق؟! لا شأن لبيروت بأي قرار سياسي جدي، فالحكم فيها مجرد “إدارة مدنية”، أما الشأن السياسي فمتروك “للحكومة المركزية” في دمشق التي تعهدت برعايتها (وبالتوافق مع الأميركيين) تنفيذ اتفاق الطائف.
أما آخر نسخة لهذا المنطق الرسمي فتقول باختصار الطريق إلى واشنطن والتفاهم معها مباشرة، طالما كان ذلك ممكناً، في الشؤون المصيرية، مع تجنب استفزاز دمشق التي “علينا أن نخفف عليها فلا نحملها أثقالنا، مع استمرار التنسيق اليومي ووضعها في الصورة دائماً، فنحن أوفياء نحفظ الجميل، ثم إن مصلحتنا تقضي بذلك”.
عظيم، ولكن ماذا عن علاقات لبنان بالأطراف الراعية للمؤتمر، أو المشاركة فيه من العرب تحديداً، وأ×يراً ماذا أعدّ لإسرائيل، أو ماذا استبقى من أسلحة لمواجهتها في مؤتمر ليس بين موضوعاته احتلال الجنوب وبعض البقاع، وبعض الإرادة؟
مع الافتراض بأن العلاقات اللبنانية – السورية ليست سيئة (للتعذر)، فلا بد من الاعتراف بأنها تشكو حالياً من بعض الاعتلال والخلل نتيجة مجموعة من العوامل أبرزها ما سبق ثم ما رافق وربما ما نتج عن الرحلة النيويوركية متصلاً بالقرار 425.
وبغض النظر عن كل الجعجعة حول الضمانات الأميركية التي تلقاها الوفد الرئاسي، فالمؤكد إن احتمالات تنفيذ هذا القرار لم تتعزز مطلقاً، بعد الرحلة، مع إن طرحه في وقت مبكر أضعف إمكانات استثماره لتحسين شروط التفاوض… أي شروط انعقاد المؤتمر.
وفي وضع عربي متهالك تصبح خسارة الأوراق القليلة المتبقية في يد الطرف العربي مأساوية النتائج، إذ تضاف إلى رصيد الإسرائيلي، وهو أصلاً أقوى مما يجب لكي يقبل بمبدأ التفاوض.
ما علينا، لننظر في ما تبقى،
*لا ضرورة لكثير من الشرح لإدراك إن مصر (في وضعها الراهن) أضعف من أن تساعد أحداً، لاسيما داخل المؤتمر. كان يمكنها المساعدة من قبل، وكان أهم ما يمكن أن تقدمه تنوير الحكم اللبناني وسائر الأطراف العربية بطبيعة الإسرائيلي كمفاوض، وماهية العلاقة الأميركية – الإسرائيلية. ولقد حذرت القاهرة الجميع من أن لامؤتمر لن يؤدي إلى شيء، وإنه مع ضرورة الذهاب إليه (لانعدام القدرة على الرفض) فلا بد من التشدد أو التدقيق في كل كلمة أو ممارسة حتى لا توظف بما يضعف الموقف العربي الضعيف أصلاً.
*مع الأردن لا مجال للحديث عن علاقة خاصة أو عن تنسيق، اللهم إلا إذا كان الحكم يفترض إن ما تم بين دمشق وعمان (وهو غامض ومحدود ومحكوم بالاضطرار فقط) يمكن أن ينسحب عليه.
الأخطر إن في الحكم تياراً كان يسعى إلى اعتماد سياسة تواطؤ ضمنية مع النظام الأردني على الفلسطيني، وقد جاءته (وبالواسطة) إشارات تشجعه على ذلك فتقبلها بشيء من الرضا، وكاد يرد على التحية بأحسن منها لولا أن تداركه أولياء الأمر!
*أما مع الطرف الفلسطيني، فالتنسيق معدوم، بل إن القليل من الكلام الذي يتم تبادله مع بعض القياديين الفلسطينيين ما زال أقرب إلى حوار الطرشان. وبعدما انقشع الغبار عن “معركة المخيمات في صيدا وجوارها” تبين إن العلاقة مع هذا الطرف أعقد وأكثر صعوبة من أن تحلها الحرب… لاسيما بذخيرة مستعارة.
ولقد اكتشف العديد من المسؤولين، متأخرين، إن أحداً لم يشتر منهم هذه المعركة التي ملأوا بجلبتها الأفق، وافترضوا إنها ستجيئهم بالعروض بل وبالمكافآت السخية.
وبطبيعة الحال فإن إسرائيل التهمت الصيد المجاني والتفتت تسأل عن عناصر الازعاج الأخرى “لأمتها”، فطرحت على الفور موضوع المقاومة الوطنية في الجنوب مختارة لها عنوان “حزب الله” والدور الإيراني عموماًز
باختصار يمكن الاستنتاج بغير تعسف أن لبنان يدخل المؤتمر كأضعف طرف، في حين كان إلى ما قبل فترة بسيطة قوياً، بل وأقوى من بعض الأطراف العربية بالأوراق التي أحرقها أو أضعفها سلفاً وبينها: قرار مجلس الأمن الدولي 425، الوجود الفلسطيني الكثيف (والمسلح) فيه، المقاومة الوطنية كاحتمال… واستطراداً العلاقة الصحية مع سوريا، وعبرها ومعها علاقته بالولايات المتحدة الأميركية.
كل هذا ولم نصل بعد إلى المضحك المبكي وهو تشكيل الوفد اللبناني إلى “مؤتمر السلام”، وأية قواعد ستحكمه بداية ثم في سلوكه هناك، لاسيما حين ينفرد به المفاوض الإسرائيلي المدرب والقوي بسلاحه واحتلاله وبتحالفاته “التاريخية”ز
ويمكن التساؤل بجدية عن الملفات التي أعدها الحكم لمثل هذا الحدث الخطير، خصوصاً وإنه حتى الأمس كان يتعامل مع الأمر بكثير من الاستخفاف أو الاستبعاد.
إن الجدل الدائر الآن حتى بين أطراف الحكم يظهر إنهم اختلفوا في فهم بعض الجمل التي سمعوها من الرئيس الأميركي جورج بوش، ومن بعض مندوبيه المعروفين منهم جيداً كجون كيلي،
كذلك فهم مختلفون في فهمهم لما سمعوه من أمين عام الأمم المتحدة دي كويار حول القرار 425 واحتمالات تنفيذه،
فكيف سيتصرفون غداً في مواجهة العدو الطامع بأكثر من الجنوب ومياهه والاقتصاد ومزاياه الفريدة؟!
وهل سيتحول المختلفون على أبسط التعيينات في الإدارة، وعلى بعض الصفقات والمنافع والمباذل، إلى حكم قوي موحد الرأي والكلمة وهم يحاولون تشكيل وفد ذاهب لتحديد الخسائر التي سيتكبدها لبنان، من ضمن العرب، عبر مؤتمر “الفرصة الأخيرة” كما يسميه بوش؟1
لقد كان الرئيس الهراوي صريحاً وظريفاً حين “شكر” الرئيس الأميركي على إتاحة الفرصة للقائه ومعه وزير خارجيته جيمس بيكر “الذي طالما شاهدته على التلفزيون وهو يجوب المنطقة من حولنا ولا يعطينا فرصة مجالسته والاستماع إليه في بيروت”…
فهل سنتفرج غداً على “المؤتمر” في التلفزيون أيضاً؟!
وهل سنكتفي بالاستماع إلى مقررات المؤتمر في ما يعني لبنان، معتمدين على إن السوري سيحمينا وإن الأميركي لن يفرط بنا؟!
مطر، مطر، مطر
كالقبلة الأولى، كانبثاق مطلع القصية في وجدان عاشق، كطلة فارس نبيل على قافلة تائهة في الصحراء، كذلك كان تدفق المطر، قبيل مغيب شمس السبت، معلناً نهاية الصيف على ظهر ورقة شجر خريفية مزركشة كما السجاد.
ارتعشت الجبال وهي تستحم، وبثت الأرض عطرها البكر، وتحولت أوراق الكرمة إلى ابتسامات خضراء، واهتزت الطبيعة طرباً في مهرجان الحب الأبدي بين الأرض والمطر الذي استبق باللهفة، هذا العام، موعده المرتجى دائماً.
… لكن إسرائيل ترفض مقايضة الأرض بالسلام!!
من يحفظ الأرض يحفظ معها المطر، الحب، الخصب، التجدد، الكرامة وإنسانية الإنسان؟!
من يحمي في صدورنا حب الحياة؟!
مطر، مطر، مطر… لعله يغسلنا المطر، لعله يصحينا المطر. لعله يعيد ربطنا بأرضنا المطر. لعله يعيد إلينا أسماءنا وهويتنا المطر.
حي على لاأرض، حي على المطر، حي على الحب والخير والجمال قبل أن يلغيها “مؤتمر السلام”!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان