أكبر من الحرب، ولو أهلية، هذا البلد الصغير، الذي كأنما أعد ليكون لكل الفصول والازمان.
إن الأزمات تهزه هزاً عنيفاً، وتكاد تخلخل اقتصاده ونسيجه الاجتماعي، ولكن حيوية أهله لا تنضب ولا تعوقها الصعاب فإذا بهم يجترحون حلاً “عجائبياً” لمشكلاتهم التي لا حصر لها،
لعل السر في عشقهم العظيم للحياة وإيمانهم بجدراتهم (وجدارة بلدهم الصغير) بدور عظيم لا يستطيعه غيره، كما أثبتت التجارب عبر دهر الحرب ومآسيها المهولة… وهو دور يتجاوز، في أي حال، هامة حاكميه أو المتحكمين فيه سواء بالمدفع أم بالقرار الخط أم بالدولار “أبيض” كما المخدرات أو أسود كما النفط الملعون!
وبين المفارقات إنه بقدر ما يظهر عجز الحكم وركاكته وافتقاده إلى المخيلة والأحلام، بقدر ما يثبت مواطنه أنه شاعر يكاد يستوطن الحلم، ويستطيع – غالباً – أن يتجاوز بإرادته الحلم ذاته!
على سبيل المثال لا الحصر يمكن التوقف أمام ثلاث ظواهر متزامنة:
1 – في أقصى الجنوب، وعلى مسافة ذراع من الأرض الفلسطينية، وداخل “الشريط” الذي يحتله العدو الإسرائيلي ويتخذ منه “حزاماً لأنه”، يتصدى بعض الفتية الغر، والإيمان البكر يعمر صدورهم، لقائد جيش الاحتلال الذي كان “يتربص” وكأنه داخل حرم تل أبيب، فيحصدون برشاشاتهم وقنابلهم اليدوية بعض موكبه جهاراً نهاراً محدثين زلزالاً داخل أسطورة القوة التي لا تقهر…
2 – وفي بيروت، لا يكاد يختتم مؤتمر وزراء خارجية دول “الطوق”، بكل مراسمه، وعلى هامشه المؤتمر الشعبي لنصرة الجماهيرية العربية الليبية في معركتها بمواجهة الحملة الصليبية الغربية الجديدة، حتى يتقاطر على هذه العاصمة – الأميرة، المبقورة البطن والمعطل قلبها بقرار نفطي أسود، نخب المفكرين والكتاب والشعراء العرب لكي يشهدوا فيها وخلال أسبوع واحد تظاهرتين ثقافيتين.
أ – الأولى – المؤتمر الثاني لاتحاد الكتاب في لبنان (من 8 – 12 نيسان الجاري).
ب – والثانية – المؤتمر القومي العربي الثالث (من 14 – 16 نيسان الجاري).
وإنه لشرف كبير أن تستضيف بيروت كل هذا الحشد من المثقفين العرب، وهو في الوقت ذاته إعلان بعودة الروح إلى لبنان الذي لا يمكن أن يكون إلا عربياً،
3 – في الوقت ذاته كان فساد النظام وأهله يحاصر بالجوع هذا المواطن الخارج من الحرب مثخناً بالجراح، في نفسه وروحه قبل جسده، فترفع المضاربة وسوء الإدارة وغياب الحكم صاحب الرؤيا والخطة، سعر الدولار الأميركي إلى رقم قياسي يتجاوز الألف وخمسماية ليرة.
ومع أن هذه الحرب الاقتصادية التي تشن على المواطن فتهدده في لقمة عيشه أقسى في وقائعها من مختلف “الحروب” التي فرضت عليه بامتداد الست عشرة سنة، فهو لم يستسلم ولم يرم سلاحه ولم يتخل عن هويته وانتمائه القومي وعن حقه في دور ريادي أقله على المستوى الثقافي (وهو الأبقى) طالما إن حكمه أبأس من أن يلعب مثل هذا الدور على المستوى السياسي.
ما أعظم أن يكون الشعب أقوى من الحكم وأقدر.
ما أعظم أن يكون الشعب خلافاً، مبدعاً، محصناً ضد الخوف والقهر والجوع.
وطبيعي أن مثل هذا الشعب لا يمكن أن تسحقه إسرائيل بالاجتياح العسكري أو بالغارات شبه اليومية أو بإرهابها “الرسمي” الذي لا يراه (ولم يسمع به) مجلس الأمن الدولي بعدما أخضعه السيد الأميركي لمقتضيات نظامه العالمي الجديد.
من هنا تبدو خطورة حرب التجويع والاذلال بالدولار التي تشنها على هذا الشعب المتدفق حيوية والمجترح المعجزات للتغلب على المصاعب والمآسي التي نجمت عن الحرب، قوى ظلامية تستغل بعض التافهين والسماسرة في الخارج لتكسر شوكة آخر بؤر المقاومة الشعبية العربية لحساب “السيد الأميركي” إياه، ومعه دائماً حليفه الإسرائيلي.
إنها، مرة أخرى، حرب على الأمة جميعاً، وليس على بيروت أو على لبنان وشعبه.
إنها حلقة أخرى في سلسلة الحروب التي تستهدف تدمير إرادة الأمة، والتي نشهد فصلاً أبشع من فصولها في ما يدبر ضد الجماهيرية العربية الليبية وشعبها.
وهي تستهدف عبر بيروت دمشق، بقدر ما تستهدف عبر طرابلس القاهرة، ولو مستكينة، بعد أن فرغت من تدمير العراق “بفضل” الحماقة النادرة المثال التي ارتكبها الحكم في بغداد.
إن لبنان الزمن الجميل لم يمت، ولن يموت،
وها هم شعراء العرب وكتابهم ومفكروهم يعودون إلى مهجع أحلامهم، هذه العاصمة – الأميرة ولو حزينة،
والحزن نبيل، ولذا فهو المدخل إلى الثورة وليس إلى الاستسلام.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان