لا يترك كلينتون أمام العرب مجالاً للأوهام.
إن صراحته جارحة بقدر ما هو مهين انسحاقهم بالهزيمة وبقدر ما هو مدمر عراكهم مع الذات الذي فرّق صفوفهم وبعثر قواهم وحولهم إلى أشتات متناحرة.
وفي الحوار الشامل مع كلينتون، الذي نشرته “السفير” أمس، بالاتفاق مع مجلة “ميدل غيست إنسايت”، تحتل إسرائيل مكان الصدارة ويتوجه إليها فقط الاهتمام، في حين لا يتبقى للعرب أو عليهم غير تلبية شروط السلام الإسرائيلي.
*فالصراع العربي – الإسرائيلي، في نظر كلينتون “هو صراع متعلق ببقاء إسرائيل على قيد الحياة”.
إذاً فشرط حياة إسرائيل أن يُنهي ذلك الصراع، ولا يهم أين يكون العرب وكيف يكونون، وهل تكون لهم حياتهم الخاصة أم إن إسرائيل ستقرر – من بعد – كيف يحيون؟!
*وإسرائيل، عند كلينتون، هي “شريكتنا الديمقراطية”.
والعرب، طبعاً، خارج الشراكة مع الأميركيين، وهم قطعاً خارج الديموقراطية.
لكأنه يريد أن يقول إن إسرائيل هي “الشريك المفوض”، أميركياً، لتقرر ما تراه، بالنسبة للعرب ومستقبلهم.
*أما السلام، عند كلينتون، فهو ذلك الذي “يضمن إسرائيل ويلبي المتطلبات الشرعية للعرب”…
وهذه معادلة صعبة على الفهم، ومستحيل تطبيقها إلا إذا تحول العرب إلى “جاليات أجنبية” أو “أقليات عرقية” يمنحها الإسرائيليون قدراً من الحكم الإداري الذاتي، كالذي يعرضونه الآن على الفلسطينيين.
*الفلسطينيون؟! إن موقف كلينتون قاطع في وضوحه: لا لدولة فلسطينية مستقلة!
والأخطر: “يجب ألا يتمتع الفلسطينيون بحق تقرير مستقبل إسرائيل”.
أي إن من حق إسرائيل أن تلغي وجود الفلسطينيين تماماً، فتنتزع منهم أرضهم، وتمنعهم من إقامة دولتهم، وتسقط أبسط حقوقهم في تقرير مصيرهم، وبالمقابل يجب أن ينهي الفلسطينيون أنفسهم بحيث لا يؤثرون من بعد على مستقبل إسرائيل!
بين “التفاصيل” أن كلينتون يعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، مع “الحرص” على استمرارها مدينة موحدة… لكن مصير الفلسطينيين كلهم يسقط إلى ما دون التفاصيل في مستوى الاهتمام.
*وفي حين يتعهد كلينتون بأن ينشط “لإبقاء أسلحة الدمار الشامل خارج أيدي دول مثل إيران وسوريا والعراق وليبيا”… فإنه يؤكد ويجدد التعهد “بصيانة التفوق الإسرائيلي العسكري النوعي ضد خصومها”.
ليست مصادفة أن يختار كلينتون ثلاث دول عربية ليضعها على القائمة السوداء، فيمنع عنها السلاح المتطور، بينما هو في الحديث ذاته يعلن تأييده لقرار “سلفه” جورج بوش ببيع طائرات أميركية متطورة إلى دولة عربية مأمونة الجانب تماماً هي المملكة العربية السعودية.
هل ترى أسلحة الدمار الشامل في اليد الإسرائيلية ضماناً للديمقراطية ولحقوق الإنسان؟!
وهل لهذا القرار بعد عسكري فقط أم أنه هو الأساس، في رسم الخارطة الجديدة للمنطقة بحيث يكون التفوق شاملاً ومطلقاً للإسرائيلي على مجموع العرب: في الاقتصاد كما في الزراعة، في الصناعة كما في الطب، وفي التعليم كما في المجال العسكري؟!
*من هنا إلحاحه على ضرورة إنهاء المقاطعة العربية لإسرائيل.
إنها، في نظره، حرب اقتصادية، وبالتالي فهي تكسر التعهد بضمان التفوق الشامل لإسرائيل على مجموع العرب،
وغداً سيقال إن أي كلام عن “فلسطين القديمة”، أو عن “التحرير” و”الثورة” و”الكفاح المسلح” و”حق العودة” الخ كل ذلك من أدوات الحرب. ولو ثقافياً، وقد ينتهي الأمر بمنع قصائد محمود درويش وبعض أغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ والشيخ إمام الخ.
فليس كافياً فتح الأرض العربية والسماء العربية والبحار العربية أمام التمدد الإسرائيلي،
وليس كافياً فتح الأسواق العربية أمام البضائع والمنتجات الإسرائيلية،
وليس كافياً نزح الرساميل العربية إلى الشركات والمؤسسات العاملة في خدمة التوسع الإسرائيلي والتمكين للتفوق الإسرائيلي،
لكن المطلوب أيضاً فتح العقل العربي والوجدان العربي أمام الحقائق الثابتة الجديدة التي يفرضها ويستلزمها تكريس التفوق الإسرائيلي في مختلف مجالات الحياة.
فإذا كان العرب هم الماضي، فإن إسرائيل هي المستقبل، وفي السماء كما على الأرض.
لا مجال للأوهام.
حتى تلك التي أشاعها عهد جورج بوش ووزيره جيمس بيكر، ستطوى وترحل معهما، ولا يبقى غير صورة الواقع العربي، كما يعكس نفسه على السياسة الأميركية.
فإذا كان لا وجود للعرب داخل أقطارهم، وإذا كانت قراراتهم الداخلية تنتظر الإذن بالموافقة من واشنطن، بدءاً بتعيين مجلس الشورى وانتهاء بتحديد شخصية “ولي العهد”، فلماذا تطالب واشنطن بأن تعطيهم فوق ما يطلبون، وربما فوق ما يطيقون؟!
*تبقى الإشارة إلى أن كلينتون قد قال في سياق مقابلته المنشورة في “السفير” أمس، أن “على دولة عربية واحدة على الأقل أن تكسر الجليد وتنهي المقاطعة ضد إسرائيل”.
وهو قد قال هذا الكلام من قبل أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركية وسيدا للنظام العالمي الجديد.
لكن المملكة الأردنية الهاشمية لم تتأخر عن الاندفاع خطوة واسعة على هذا الطريق، تحت عنوان متواضع هو : “الاتفاق على جدول الأعمال” في المفاوضات الثنائية الجارية في واشنطن،
فخير البر عاجله، خصوصاً وأن الأعمار بيد الله، والملك حسين يريد أن يؤدي الأمانة كاملة قبل عودته إلى المصح الأميركي لاستكمال العلاج…
شفى الله العرب.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان