يعيش العالم فرحاً غامراً بولادته من جديد، ونعيش في لبنان حزن الخوف من الاندثار، ويعيش سائر أشقائنا العرب قلق الخشية من أن يغفلهم التاريخ ويكمل مسيرته من دونهم.
لكأننا في حرب مفتوحة مع حقائق الحياة وسنة التطور.
فنحن نتوغل في الحروب الأهلية حتى لنكاد نكتسب ملامحها ونستوطن “قيمها”، في حين يودع عالم التسعينات الحروب على أنواعها ويبرأ نفسه من أبطالها وأسبابها باعتبارها من ذكريات الماضي المشين ومآسي عصر التخلف الإنساني.
ومع بداية التسعينات يغمر العالم إحساس صحي بأنه يعيش اللحظة الفاصلة بين نهاية تاريخ وبداية تاريخ جديد للإنسانية كلها.
إن إنسانأً جديداً يولد في كل مكان من هذا الكون.
إن عالماً جديداً يطل علينا، عبر التحولات المذهلة، التي تهز أرجاء الدنيا بشرقها وغربها،
وهو عالم أهم ميزاته إطلاقاً أن القرار بشأن مصيره، كما بشأن سوية الحياة فيه، يعود إلى الإنسان… إلى الشارع.
لقد عاد النبض إلى الشارع. لقد عاد الإنسان إلى الشارع. لقد عادت الحياة إلى الكون. وعادت الأرض مشروع نعيم إنساني.
من زمان “نظفت” الحكومات الشارع من أدرانه الإنسانية.
من زمان حددت الدكتاتوريات، رأسمالية وشيوعية، مواقف القطارات والسيارات والأوتوبيسات في الشارع، ونسيت أن تحدد أمكنة لتجمع الناس.
فإذا كان لا بد من تجمعهم فالحاكم هو الذي يدعوهم ويحدد لهم الموعد، والشرطة هي التي تحدد لهم الطريق، والمخابرات هي التي تحدد لهم الشعارات ولحظات الهتاف والتصفيق، وإعلان التأييد. والجيش هو الذي يحدد موعد الانصراف، لمن طاب له البقاء في الشارع ولو لشرب فنجان قهوة في الهواء الطلق.
عودة الإنسان إلى الشارع حدث كوني، إنها هي بداية التاريخ الجديد. لقد انتزع الإنسان، كرة أخرى، الاعتراف بقيمته، بحقه في صنع القرار السياسي، بحقه في الوجود.
لكأنها النهاية الفعلية لزمن الحروب، فالإنسان ضد الحرب وضد المتسببين فيها.
لكن الدكتاتوريات والمصالح، وهي في الأصل نتاج رأسمالي، كانت تنزل الإنسان إلى الشارع لتأخذه إلى الحرب. تارة باسم الدفاع عن الدين، وطوراً باسم الدفاع عن الوطن، تارة باسم الحق الإلهي في امتلاك الأرض وثرواتها. وطوراً باسم الحق الإنسان في الديموقراطية والحرية و… في تقرير مصير الآخرين!
… ولقد وصلتنا أنماط من الدكتاتورية هي الأكثر تخلفاً، ثم إنها وصلتنا متأخرة عن زمانها وبعدها انتهت مدة صلاحيتها.
ولأنها رفضت فقد أعلنت الحرب على الكون وعالمه الجديد، واتخذت قرارها بإعادة خلق الإنسان وتربيته وتنظيم نسله!
على أن العالم بإنسانه الذي نزل الآن إلى الشارع يتابع مسيرته الرائعة نحو غده الأفضل، لا يوقفه تعنت طاغية مثل تشاوشيسكو، ولا تضلله شعارات دكتاتور أحمق مثل نورييغا.
وإذا كان شعب رومانيا العظيم قد أكد أن عشقه للحرية يفوق عشقه للحياة فبقي يقدم من دمه حتى جرف طوفان الدم الطاغية السفاح، فإن جورج بوش الوصي على الحرية في “العالم الحرب” قد اتخذ القرار نيابة عن شعب باناما (؟!)، فاجتاح بعسكره تلك الدولة الصغيرة التي تشكل حبل السرة بين الأميركيتين موقعاً من الضحايا أضعاف ما قتله الطاغية الصغير طوال فترة حكمه.
وفي حين يوالي شعب ناناما تشييع ضحاياه، مفتقداً حريته وكرامته أيضاً، فإن نورييغا ما زال حياً يرزق، ولعله بفضل الرعاية الأميركية، قد تحول من “سفاح” إلى نموذج ممسوخ لبطل الصمود الوطني في وجه الإرادة الأجنبية.
وأخطار في ما في درس باناما حقيقة بسيطة تقول: إذا كان النظام الشيوعي الشمولي الذي ألغى الإنسان قد سقط في شرق أوروبا فإن المطموح إليه والمرتجى هو بالتأكيد غير النظام الغربي الذي “يكرم” إنسانه باستعباد الإنسان وهدر كرامته وحياته ذاتها في كل أرض أخرى!.
فيأي حال فإننا قاب قوسين أو أدنى من ولادة نظام دولي جديد.
والمؤكد أن النظام العربي القائم ينتمي إلى عصر مضى وانقضى منذ قرون، وليس فقط منذ انفجار الانتفاضة الشعبية في دول الكتلة الاشتراكية.
والمؤكد أن هذا النظام العربي ليس مؤهلاً، بمواصفاته الشاوشيسكوية، للحياة والانسجام مع اذا الآتي من رحم البروسترويكا والاكتشافات العلمية التي ابتدعت للإنسان عالماً غير الذي عرفه وألفه حتى الثمانينات من هذا القرن.
ونحن بعد في البدايات.. إن ما نشهده هو العنوان فحسب، ولكنه كأي تغييير كوني مفتوح للإبداعات الإنسانية التي لا يمكن أن يحدها تقدير.
لقد رجع الإنسان إلى الشارعه.
لقد عادت الروح إلى الشارع. وعاد الإنسان يمسك بزمام القرار.
.. وآخر مرة نزل فيها الإنسان العربي إلى الشارع كانت موعداً مع حزن قومي عظيم في وداع القائد الراحل جمال عبد الناصر.
ترى متى الموعد العربي الجديد مع التاريخ؟!
الممزقون بالتناقض..
في لبنان يمكنك أن ترى التجسيد الحي للفكرة ونقيضها.
إن اللبنانيين بأكثريتهم، وحدويون، لكنهم لا يجدون تناقضاً كبيراً في دعم أو تأييد أو حتى السكوت عن بعض الظواهر الانقسامية.
واحد من متهدي مسيرات التأييد لجرنال التحرير قال لي بحدة: – طبعاً أنا مع وحدة لبنان، ومع الشرعية، ومعالدولة.. ولكنني أحب الجنرال.
-أي إنك معه وضد مشروعه السياسي؟!
-لا أعرف شيئاً عن مشروعه السياسي ولكنه يعجنب. يقول كلاماً يلامس شيئاً ما في صميمي.. (وبعد لحظة صمت) هل هو فعلاً ضد الوحدة؟! أنه يرضى غروري، وأقول لك بصراحة أنه يدغدغ مشاعري الطائفية، ولكنني أعرف أن لا مستقبل للمسيحيين في لبنان إذا ما تصدعت وحدهته… وأنا أحس بأزمة في علاقتي بالجنرال، لا أعرف كيف أحددها، أنا معه ولكنني افتقد الاطمئنان. الحب يولد الأمان عادة، ولكن حبي للجنرال يكبر ويكبر معه القلق. وأريح نفسي بالافتراض أن مصالحة ما ستقع بين الجنرال وبين الآخرين، وإنني ليست مضطراً إلى خيار محدد: مع الدولة أم مع الجنرال؟
مع الوحدة أم التحرير. سيتصالحون غداً، فلماذا أطلع أنا بسواد الوجه؟!
والممزقون بالاقتتال..
*جمهور الوحدة والدولة هو المبعثر والممزق بالاقتتال.
بعض هذا الجمهور مأخوذ بحروب الجنرال ضد الكون، وهو بموقفه يبعد لبنان عن ساعة قيام دولته واستعادة وحدته.
وبعض آخر من هذا الجمهور مشغول بالاقتتال على صاحب الإمرة في إقليم التفاح، يمزق الجنوب ويشرد الجنوبيين ويدمر مصادر رزقهم ويزهق أرواحهم بحجة الحرص على الجنوب وتأمين سلامته.
للمناسبة ألا تستوقفك تلك المفارقة العجيبة: كلما تزايد عدد المسلحين في الجنوب تضاءلت فرص السلامة أمام أرضه ومواطنيه؟!
لقد ظل الجنوب وحيداً دهراً طويلاً. كان خارج ذاكرة الدولة، ولم يكن ثمة وطن ليكون بعضه. كان عارياً كطفل في لحظة الولادة، نظيفاً مثله، صادقاً مثله. لم يقبل أهله بضياع فلسطين وقيام إسرائيل، فظلوا “فلسطينيين” ولو بغير سلاح. وظلت إسرائيل هي العدو، لم تستطع أن تأخذ منهم أرضاً أو عاطفة، أو حيدة أو مجرد قبول.
.. ومع تدفق المسلحين إلى الجنوب بدأ “الدخول” الإسرائيلي إليه.
وكان كلما زاد عدد المسلحين تناقصت إرادة القتال والقدرة على المواجهة.
اليوم وبينما يعج الجنوب بالمسلحين تشحب أكثر فأكثر صورة الجنوب المقاوم ويتزايد أكثر فأكثر الخطر على سلامة الجنوب وصمود الجنوبيين.
فالثورة ليست من تدمير المال والرجال والسلاح،
والسلاح وحده لا يصنع مقاومة،
والإيمان بالسماء من دون ارتباط بالأرض لا يستولد قضية ولا ينبت مجاهدين.
العيد بالتمني..
*لم تبق لنا الحرب من العيد إلا التمني بأن يعيش إلى زمن آخر حتى نلقاه.
رحلت الأعياد وأصيبت مواعيدها على المفكرة بالخرس.
يأتي العيد من رحم الفرح، فإذا ما اغتيل الورد سقطت ادعاءات النصر وخيمت الهزيمة وانتشر ليل الضحايا وهاجر الحب إلى قلوب لا يعشش فيها الخوف من الشمس ونسائم الحرية.
المفجع أن الحرب قد استهلكتنا حتى لم نعد نعرف كيف نحزن!.
كيف تكون الحياة إذا افتقدمت عاداتك الإنسانية، إذا تبلدت مشاعرك فاستعصت على صرخة الاستغاثة وعلى نجيب الثاكل كما على زغرودة مبشرة بمولود طال انتظاره في زمن العقم؟!
مع ذلك كله، وبرغم ذلك كله علينا أن نستخلص حياتنا من براثن الحرب وأبطال الحرب، وعلينا أن نستولد أعيادنا وأفراحها من قلب الهيستريا التي تعصف بلبنان فتجعل اللبنانيين مخدرين مشلولي الإرادة كالسائرين نياماً وفي كل واد يهيمون.
كل عام وأنتم بخير..
مع التمني، وقبل التمني وبعده، علينا أن نستنقذ الخير وأن نحميه،
ولنعمل جميعاً لكي تكون 1990 سنة نهاية الحرب. سنة بداية السلام، والسنة التي نعود فيها إلى أنفسنا، إلى الورد والفرح والحب، إلى الوعي، إلى الحياة.
وإلا فلن يجد واحدنا غداً من يبادله التمنيات بالخير إذا ما أطل عام جديد،
لنلتحق مجتمعين بعصر الإنسان، عصر السلام الكوني، عصر الحرية بدل أن يهاجر كل منا، وفردياً، من أرضه وأحلامه ومشاعره وإنسانيته لكي يستبقي لنفسه حياته ولو بلا معنى وبلا أعياد في أراضي الآخرين.
فالعيد ليس مشاعاً، وفرحته من حق الذين أسهموا بجهدهم في اصطناعه وفي إعطائه المعنى والقيمة.
والعيد يحضر متى حضر الإنسان، فإذا كان الإنسان مستهلكاً بالحرب ضد ذاته فمن أين يجيئ العيد،
مع ذلك، يبقى لنا الأمل بأن ننتصر على الحرب، على الخوف، على الظلم، على الغرائز والأحقاد، وأن يكون لنا عيد يتمنى فيه كل منا للآخر الخير..
وكل عام وأنتم بخير.