اليوم، الخميس في 28 أيلول 1978، وفي القاهرة، سيعلن الرئيس أنور السادات – في خطاب موجه على الأمة – قراراً جمهورياً بوفاة جمال عبد الناصر.
اليوم، سيقول العائد من معسكر داوود “بطلاً للسلام” إن مصر ظلت، في الفترة بين خروج موسى واليهود منها قبل حوالي ثلاثة آلاف سنة وحتى عودته وعودتهم إليها بالأمس، مجرد أكذوبة، وإن النيل لم يكن إلا سراباً ، وإن رمسيس الثاني خرافة، وإن عمرو بن العاص مجرد دعي ومزور للتاريخ، وإن الألف مئذنة المرتفعة في سماء القاهرة ليست إلا أشجار نخيل غرسها أجداد مناحم بيغن الذين تفضلوا على مصر أيضاً بالهرم الأكبر!
منذ ثماني سنوات، والرئيس السادات لا يفتأ يهيل التراب على اسم مصر، وعلى كل ما له علاقة من قريب أو بعيد بابنها البار جمال عبد الناصر: على قبره، على صورته، على ذكره، على عائلته، على إنجازاته، على منهجه في العمل داخلياً وخارجياً، سياسياً واقتصادياً، اجتماعياً وثقافياً.
ومنذ ثماني سنوات وجمال عبد الناصر يغوص عميقاً في أرض مصر وفي الوجدان الوطني والقومي لكل عربي، كما لكل مناضل ولكل شعب مقهور ومضطهد في أربع رياح الأرض، لكن أفكاره، آراءه، شعاراته، صرخته المدوية بأن “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الذل والاستعباد”، كل هذه لا زالت تتردد هناك وهناك في أرجاء الدنيا الواسعة رمزاً لديمومة فكرة الثورة وإرادة التغيير، وتعبيراً حياً عن الطموحات المشروعة لإنسان هذا العصر في مستقبل أفضل.
والآن وقد قتل السادات فلسطين، أو هكذا يفترض، يمكنه أن يعلن وفاة الخطرين بل العدوين اللذين أقضا مضجعه سنوات طويلة: مصر وجمال عبد الناصر.
ولقد قتل فلسطين بقرار أميركي، ألم يقل برجنسكي بالأمس: وداعاً لمنظمة التحرير الفلسطينية (التي وصفها رئيسه كارتر بأنها مجموعة من النازيين والشيوعيين، والعنصريين مثلها مثل منظمة كلوكلاكس كلان)؟!
ولقد قتل مصر بقرار أميركي: أفلم يعلنوا في واشنطن إن القومية العربية باتت شيئاً من ذكريات الماضي، وإنها لم تعد تلائم روح العصر فانقرضت كما الديناصور؟!
على أن الأخطر والأقسى والأمر إننا ساهمنا واشتركنا معه في الجرائم جميعاً، وتلك هي القضية.
على امتداد سنوات الهزيمة كانت الأمة تمارس الانتحار، بسبب الظروف التي فرضت عليها، وأيضاً بسبب العجز عن مواجهة هذه الظروف، ومعظمه مفروض.
وهكذا “اختفى” العرب، وعاد إلى المسرح الفلسطيني والسوري، العراقي والليبي، الجزائري والمغربي، ونبت أيضاً “الصحراوي”، وانشقت اليمن يمنين، وحبانا الله بدول جديدة أهمها جيبوتي، في حين تمزق بلد مثل لبنان بعدد عرب هذه الأيام (والوصف هنا تجاوز وهو يعود إلى الماضي)، أما السعودية فقد أضافت إلى الغنى أبة الزعامة، ولله الحمد.
لقد وقع الجميع في الشرك: جهر أنور السادات بإقليميته ليفتح الطريق عريضاً إلى المروق والانحراف ومصالحة العدو، فإذا الآخرون يدارونه ويتنافسون معه بل ويبزونه في إقليميته.
ومع تغييب التوجه الوحدوي والفكر الوحدحوي والنضال الوحدوي والممارسات الوحدوية بات سهلاً اغتيال أي شعب، أي وطن، انتهاء باغتيال الأمة وفكرة الثورة، حتى من قبل أن تنعقد قمة كامب ديفيد، التي لم تفعل غير تثبيت محصلة المسيرة الانفصالية – الارتدادية داخل مصر وخارجها.
لقد أصابنا نوع غريب من الحول، بل من العمى السياسي، ففصلنا في لحظة بين الوحدة والثورة، فخسرنا الوحدة ومعها الثورة بالتأكيد، لأن لا ثورة بغير وحدة، ولأن الوحدة هي هي ولا شيء غيرها الثورة.
وفصلنا بين الوحدة والاشتراكية، فلم نبن الاشتراكية لأن غرستها لا تنبت أصلاً على قبر الوحدة.
وفصلنا بين الرجعية والاستعمار، وحتى بين إسرائيل والاستعمار، فإذا نحن أسرى الهيمنة الكاملة لهذا الثالوث الذي لا يمكن إلا أن يكون موحداً ومعادياً لنا جميعاً، أفراداً وشعباً وأمة، وطنيين وتقدميين واشتراكيين، ثوريين ووحدويين ومطالبين بالتغيير.
وهكذا تمكن أنور السادات (مع كل النعوت التي نرميه بها ونبالغ فيها دفعا للشبهة عن أنفسنا) من أن يقتل كل واحد منا على حدة.
فماذا يتبقى من هذا الجيل إذا خسر مع فلسطين مصر وجمال عبد الناصر؟!
نحن القتلة والضحايا.
ومحكامة أنور السادات تبدأ في صدرك أنت.
وجمال عبد الناصر يولد فيك أو يموت مرة وإلى الأبد،
ومثله فلسطين ومصر والأمة جميعاً.
والولادة لا تكون بالندم، ولا بالغيظ، ولا بالندب ولا بالانتقام من الذات، بل بالعمل من أجل أن يكون الغد مختلفاً.
لقد خسرنا معركة اليوم، فلنعترف.
فهل ترانا نربح معركة الغد، ضد أنفسنا أولاً، ضد السادات والساداتية فينا؟
ذلك هو السؤال، أما الجواب فهو هو الغد.
والغد هو الوحدة أو لا يكون غد على الاطلاق!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان