متى يبدأ هجوم السلام على “جنرال الحرب” وسائر الرموز التقسيمية والمعطلة للشرعية؟
متى يبدأ “العهد الجديد”؟!
متى تباشر الحكومة سلطاتها، بل متى تتقدم من الناس بصورتها الكاملة وبما يؤكد لهم جدارتها بأن تكون مرجعيتهم في مختلف شؤون حياتهم، إضافة إلى كونها قيادتهم السياسية؟!
متى يخرج الحكم من مواقعه الدفاعية البائسة فيستعيد زمام المبادرة ويستأنف الهجوم السياسي على الظاهرة الانفصالية التي تتجذر أكثر فأكثر، من حول الجنرال، في المنطقة الشرقية؟!
متى يغادر الواهمون أوهامهم حول احتمال الصدام بين “جنرال التحرير” و”حكيم التقسيم” تحت شعار اتفاق الطائف ومن أجله؟!
ومتى يتوقف السذج عن المراهنة على الدكتور جورج سعادة، رئيس حزب الكتائب، رئيس “الجبهة اللبنانية” وإمكان تحوله إلى بطل إنقاذ مشروع الحل العربي للأزمة في لبنان؟!
متى تعود “الدولة” بوصفها أداة التوحيد وإطاره، وباعتباره التجسيد المباشر للوطن؟!
لنتفق بداية على البديهيات:
*البديهية الأولى – إن الجنرال هو البادئ بالحرب والمستمر فيها حتى إسقاط الطائف وما ترتب عليه من نتائج سياسية أبرزها العهد الجديد – القديم برئيس الجمهورية الياس الهراوي، وحكومة الوفاق الوطني (بنسخته الأولية) برئاسة الدكتور سليم الحص، والمجلس النيابي برئاسة حسين الحسيني.
*البديهية الثانية – إن مناخ الحرب مفروض وقائم ومنطقه هو السائد، وليس موضوع النقاش أن نعلن الحرب أو لا نعلنها، بل حول كيفية خوضها وضمان النجاح فيها، طالما إن لا مهرب منها.
*البديهية الثالثة – إن الناس لم يعرفوا، حتى هذه اللحظة، ما هو على وجه الدقة اتفاق الطائف..
المعارضون ينادون بإسقاطه حتى من دون أن يقرأوا نصه.
والمؤيدون له يعلنون تمسكهم به من غير أن يلمسوا نتائج تطبيقه على صيغة الحكم أو على مجريات حياتهم بهمومها اليومية الثقيلة،
أولئك يفترضون فيه الخطر على وجودهم، وليس فقط على مصالحهم وامتيازاتهم، فيلتفون حول “الجنرال” بوصفه “المخلص” و”الحامي” و”المنقذ” من البلاء والاندثار،
وهؤلاء يفترضون أن تطبيقه يقربهم من مركز القرار ويعطيهم دوراً فيه ويعيد إلى المواطن بعض كرامته المهدورة وبعض حقوقه الطبيعية، كإنسان، في وطنه.
أولئك يقاتلون “الغول” وهؤلاء ينادون بحياة “العنقاء”، ولم يبق إلا “الخل الوفي” حتى يكتمل ثالوث الاستحالة!!
*البديهية الرابعة – إن الحكم يسلك، في حياته اليومية، مسلكاً استثنائياً، يدمغه بطابع الخوف حتى من جمهوره، في حين أن “المتمرد” يظهر وكأنه يحتمي بجمهوره.
الحكم الشرعي يعزل نفسه عن الناس، وتتباعد الشقة بين أطرافه بحجة اضطراب الوضع الأمني في العاصمة المفخخة بيروت.
و”التمرد” الخارج على الشرعية والدولة، يستقوي بالجمهور لإضفاء شعبية على مشروعه الانتحاري.
ولعل هذه المفارقة هي الأصل في ظهور وحدة لبنان وكأنها مطلب خارجي، تنادي به الدول أكثر مما يعمل له اللبنانيون، بينما تحتشد الجماهير اللبنانية من حول قصر بعبدا مؤكدة ولاءها لنهج تقسيمي يتزعمه الجنرال عون وتقاتل لإنجاحه دول العالم بأسرها.
الطائفة في وجه الطائف،
“الشعب” في وجه الوطن ووحدته،
“التمرد” المحصن بالجمهور الطائفي المستثارة. غرائزه وعصبيته في وجه لاشرعية القوية في الخارج وبه، الضعيفة في الداخل لأن لا عصبية لها تحميها وتحصنها.
هل صحيح إن الدولة لم يعد لها جمهورها ولم تعد لها عصيتها؟!
هل صيّر عون الجيش ضد الدولة وضد الشرعية؟!
هل نجح، بعد جعجع، وبفضل التراث الكتائبي “العريق” والذي وجد “بطله” في بشير الجميل، أن يستقطب الجمهور في “الشرقية” إلى المناداة “بالاستقلال” عن سائر أنحاء لبنان وسائر أخوته اللبنانيين؟!
وأين الخلل في هذا كله؟ وأين مكمن الخطأ في الطرح الوحدوي؟!
السؤال يبقى هو هو: متى يبدأ الإنجاز؟ متى يبدأ “العهد الجديد”؟! متى يبدأ هجوم السلام؟!
متى يتحول اتفاق الطائف من “عورة” يداريها البعض ويعتذر عنها البعض الآخر، ويخفف من وقعها بعض ثالث بفتح الباب لسجال حول إمكان التعديل بالحذف والإلغاء، إلى إنجاز سياسي جاد يوفر الأمن والاستقرار وإمكان إعادة بناء ما هدمته الحرب… لاسيما المرحلة الأخيرة منها، حرب الجنرال؟
أليس لهذا الاتفاق في الخارج “أهل” يحمونه ويذودون عنه ويؤكدون – بالدليل القاطع – ضرورته لبقاء لبنان ولسلامة اللبنانيين وبقائهم فيه؟!
هل فقد هذا الاتفاق والديه مع ولادته وقدر عليه أن يعيش (أو يموت) يتيماً؟!
ولماذا ترى من الحماسة لتعيين سفير أو مدير (ناهيك بالوزير) أكثر مما نرى من الحماسة لتأمين الاتفاق نفسه، الذي على أساسه تقوم الدولة بما فيها من إدارات وسفارات فضلاً عن الرئاسات والوزارات؟!
ثم أين أهل الاتفاق في الداخل؟!
وأخيراً: أين الحكم من الحكم، وأين الحكومة من صورتها المطلوبة كمرجعية وقيادة سياسية للبلاد والعباد؟!
هل صحيح إنها أعجز من أن تتخذ قراراً في الشأن المصيري، وأعجز أيضاً من أن تعزل سفيراً، أو تواجه تمرده وعصيانه بالسفارة، في دولة تكرر كل يوم إيمانها بالشرعية و”العهد الجديد”؟!
هل صحيح إنها لا تملك من المال ما يكفي لتجهيز الجيش، ولا حتى لاصلاح خطوط الهاتف ورفع القمامة من شوارع بيروت؟!
ماذا يعني أن تكون الحكومة مرجعية وقيادة سياسية؟!
يعني، أولاً، أن تكون وحدة متماسكة، حتى الائتلاف له قاعدته السياسية، وفي حالة لبنان الحاضر فالقاعدة، كما اعتمدها البيان الوزاري هي اتفاق الطائف.
وكما إن الاشتراك في الحكومة كان خياراً واضحاً، من هو مع الطائف دخلها ومن يعارضه عاد إلى أحضان ميشال عون معتذراً، أو إنه استنكف وقبع في بيته أو في فندقه الفخم يمارس الاحتجاج الباهظ التكاليف!
على هذا فالحكومة – بطبيعتها – صاحبة موقف، وبالتالي صاحبة قرار محدد وواضح في استهدافه السياسي: تنفيذ اتفاق الطائف وحمايته من المنادين والعاملين لإسقاطه.
ومن حق أي مواطن أن يقول رأيه في اتفاق الطائف، ولكن من يمثل الحكم أو الحكومة لا يجوز بأي حال أن يمارس حريته “الشخصية” على حساب وحدة البلاد ومصيرها. من يعترض ويعارض فليقدم استقالته وليذهب للنضال مع ميشال عون، من دون أن تدفع له الدولة راتبه… مع الفروقات!
هذا ينطبق على بعض كبار القضاة الذين رأيناهم يتكأكأون على أعتاب الجنرال، وبعض كبار الضباط، وبعض السفراء لاسيما أولئك الذين يمثلون لبنان في عواصم القرار، ثم بعض كبار الموظفين وبينهم محافظون وقائمقامون..
وأخطر ما يمكن أن يصيب الحكم، في هذه المرحلة، عقدة “المسيحيين” وضرورة استرضاء المعترض أو “الحردان” أو المستنكف، بأي ثمن، ومن ثم الامتناع عن معاقبة أي مخطئ وأي مسيء لمجرد إنه “مسيحي”، وهذا يمنع محاسبة المقصر والمرتبك والمنحرف من “المسلمين” أيضاً!
وهل يجوز أن تلتبس المواقف على الناس فيغيب وزير بسبب اعتراضه على حقيبته التي اعتبرها تافهة، في حين يصور غيابه وكأنه “اعتراض مسيحي” من بعض أهل الطائف على حكومة الطائف؟!
إن مثل هذه “العقدة” تسهم في “تطويب” المسيحيين لميشال عون وكأنهم “اقتطاعيته الخاصة”، فيحكمهم هناك ويتحكم بهم هنا،
كما إن هذه العقدة تلغي القواعد والأصول السياسية للتعامل وللمحاسبة بالثواب والعقاب.
إنها تشل، بالنتيجة، الحكم والحكومة، وتجعل ممكناً الطعن في “مسيحية” الرؤساء والوزراء والقادة المسيحيين، بينما تحصن المتمردين والعصاة والخارجين على الشرعية بمسيحيتهم وحدها،
ثم إنها تخل بجوهر اتفاق الطائف لأنها تعطي للطائفة التي كان مشكواً من هيمنتها أكثر مما كان لها، بحجة “تطمين” الموارنة، أو “شراء”تأييدهم لاتفاق الطائف، أو شراء سكوتهم، وهذا أضعف الايمان!!
وبالتأكيد فإن مثل هذه السياسة العرجاء هي التي جعلت سفيراً (من خارج الملاك) يتمرد ويصادر السفارة، وسفيراً آخر يمتنع عن تلبية طلب وزارته باستدعائه إلى بيروت، وسفيراً ثالثاً يصل إلى أبلح لتهنئة رئيس الجمهورية من دون أن يتكلف عناء إكمال الرحلة الشاقة إلى بيروت للسلام على وزيره… حتى لا نقول لاستئذانه في القدوم أصلاً إلى لبنان!
وليس اتفاق الطائف إنجازاً “إسلامياً” يعنى بالدفاع عنه “المسلمون” من دون غيرهم.
إنه في حدود ما فهم الناس أساس لصيغة جديدة لحكم لبنان، تحل حكم كل الطوائف محل حكم أو هيمنة الطائفة الواحدة،
وهو قاعدة صالحة للحد الأدنى من المشاركة والحد الأدنى من العدالة والمساواة بين المواطنين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والطائفية.
فإذا ما اكتسب التقسيميون الشعبية القادرة على إعطائهم حق “الفيتو” أصاب اتفاق الطائف ما أصاب الاتفاق الثلاثي قبله، وما أصاب أي توجه إصلاحي بالطلق.
للمناسبة لليس الحكم “حكم مسلمين”، وليست الحكومة “حكومة مسلمين”، ولا يجب أن يكونا وليس ما يصدر عنهما تحقيقاً لمطمح “إسلامي”،
وبالمقابل فليس مطلوباً منهما إثبات البراءة من “الإسلام” وحقوق المسلمين بهدف استرضاء التقسيميين.
إنه حكم اتفاق الطائف، التسوية الطائفية الواحدة بصيغة وطنية مقبولة.
وهي حكومة الوفاق الوطني، أو ما تيسر منه… وإذا كان الدكتور جورج سعادة قد غاب منها بسبب الإحراج فقد شارك فيها بسبب إحراج مضاد كل من الرئيس سليم الحص والوزراء نبيه بري ووليد جنبلاط والآخرين،
ولا فضل لغائب على حاضر، أو لحاضر على غائب، بالإحراج!
وفي كل حال فإن هذه الحكومة تضم مجموعة ممتازة من الكفاءات والقيادات السياسية القادرة فعلياً على أن تعطي ما لم نلمس آثاره حتى اليوم.
إنها مطالبة بأن تتحول، أولاً، إلى جبهة سياسية،
وهي مطالبة بأن تتصدى لقيادة الدولة، بمؤسساتها وإداراتها المختلفة، بحزم وبمسؤولية وطنية شاملة، لا توقفها حساسية طائفية، مرضية بطبيعتها، ولا تعطلها بعض الاشكالاات الإدارية أو بعض الذرائع القانونية التي توظف لأغراض سياسية مكشوفة.
وإذا ما أعوز الحكومة شيء من التشريع لمنحها بعض الصلاحيات الاستثنائية، فالمفترض أن يلبي مجلس النواب هذا الاحتياج، ضمن الحدود الضرورية.
للمناسبة أيضاً: متى يلتئم مجلس النواب لتعديل الدستور تمهيداً لتحويل اتفاق الطائف من إعلان نوايا إلى أساس دستوري وقانوني لصيغة الحكم في الجمهورية الجديدة.
إن تلك نقطة البداية.
ولعل تلك هي الإشارة المنتظرة لبدء هجوم السلام على جنرال الحرب ورفاقه من التقسيميين الشاهرين سيوفهم على الشرعية والدولة ووحدة البلاد وسلامة شعبها.
والوقت سلاح خطير في هذه المعركة،
ولقد مضى منه ما كانت الدولة بأمس الحاجة إليه، فهل يتوقف هدر الوقت، كسلاح، وهدر كفاءة اتفاق الطائف، كسلاح، وهدر رصيد حكومة الوفاق الوطني، برئيسها والمشاركين فيها، وهو أهم الأسلحة وأخطرها في هجوم السلام العتيد؟!
والسلام معركة، بل لعله أخطر “الحروب” وأقساها،
ولن نربح السلام بالوعظ أو بالدعوات الصالحة أو بالخوف من الإقدام على ما ليس منه بد.