أخيراً، اعترف السيف بالدم وبانتساب التراب، الذي تحنى به فتعطر، إلى الضحية،
أخيراً، اعترف الجاني بمن جنى عليه، وبعدما تلقى من الضمانات الدولية ما يطمئنه إلى هذا الاعتراف يلغي “القضية” ويُسقط مع “الحق العام” أهم مستندات الحق الخاص،
لقد اعترف الإسرائيلي بالفلسطيني، أخيراً وبعدما انتزع منه الاعتراف بأن فلسطينه هي هي إسرائيل، وإنه فيها في منزلة وسط بين “الأقلية القومية – أو العرقية” وبين “الجالية الأجنبية” من درجة دنيا وفي موقع التابع.
لكأنما بُعث الفلسطيني على حساب فلسطين…
فليس جلوس بعض الفلسطينيين، ومن دون الطعن في أشخاصهم، استحضاراً لفلسطين الهوية، التاريخ، الوطن والقضية، وإن هو اتخذ طابع استنقاذ ما يمكن منها كخطوة في اتجاه مستقبل مختلف عن حاضر الالغاء المطلب للشعب وحلمه بدولته المستقلة فوق “أرضه” أو ما تبقى منها، أو ما يترك له منها.
… والدم المهدور على امتداد السبعين عاماً أو يزيد نهر يوفر الحبر المطلوب للتوقيع على وثائق الاعتراف (القسري)، وأيضاً على بيانات الشجب والاستنكار والإدانة والتخوين، ناهيك ببلاغات العمليات الفدائية سعياً إلى تحرير كامل التراب الوطني ومن النهر إلى البحر!
أخيراً اعترف السيف بالدم، أما الضحية فمن أين لها القدرة على إنكار جراحها النازفة؟
في مدريد، وأمام عيون العالم كله، وعلى مسمع منه، وباللغات الخمس الرسمية، وبحضور أصحاب الرعاية والمضيفين الكرماء، اعترف إسحق شامير بأنه قد قتل الحاضر الفلسطيني ليحيي الماضي الإسرائيلي السحيق والذي موقعه الطبيعي في بعض صفحات التاريخ السابق على السيد المسيح.
وماذا لو كنت إرهابياً، قال شامير؟!
وماذا لو كنت بولونياً، قال إسحق شامير البولوني أصلاً وولادة ونشأة باسم عائلته (العريقة) إسحق يزرنتسكي، والذي استقدمته إلى أرض فلسطين مجريات الحرب العالمية الثانية، التي كان العرب، بمن فيهم الفلسطينيون، خارجها إلا كساحة قتال عليهم وعلى أرضهم بين “الحلفاء” وبين “المحور”.
اليوم في ظل نتائج الحرب العالمية الثالثة التي لم تقع إلا على أرض العرب وبدمائهم يلتقي أطراف الصراع القديم، مرة أخرى، ليضمنوا أمن السيف الإسرائيلي من خطر الدم العربي، وسلامة الأسطورة التوراتية من النار الفلسطينية المقدسة.
أخيراً اعترف السيف بالدم، أما الدم فأكثر تواضعاً من أن ينكر السيف المخضب بتاريخه!
اعترف البولوني إسحق يزرنتسكي (شامير) بأن لحيدر عبد الشافي حق “الإقامة” أو ربما “اللجوء” في منزله الموروث عن أجداد أجداده في غزة التي كانت بعض فلسطين فصيّرها الاحتلال “منطقة” من “المناطق” الخاضعة للحكم العسكري للدولة الطارئة – مثل شامير – على هذه الأرض تحت اسم إسرائيل!َ
اعترف شامير – يزرنتسكي البولوني – الإسرائيلي بأن الفلسطيني حيدر عبد الشافي فلسطيني ولا فلسطين!!
لكن شامير – يزرنتسكي البولوني – الإسرائيلي لم يعترف بفلسطينية فيصل الحسيني أو وليد الخالدي أو أنور الخطيب أو أي مقدسي آخر ممن توارثوا على امتداد قرون وأجيال تقود إلى ما قبل “اكتشاف” بولونيا، حراسة درب الآلام والجلجلة وحائط المبكى والمسجد الأقصى وبقايا هيكل سليمان (!!) وغيرها من معالم المدينة المقدسة التي كانت اندثرت وعفا عليها الزمن لولا وجود أهلها الفلسطينيين (لا البولونيين) فيها، ولولا أنهم حفظوها بدمائهم وأهداب العيون!
تماماً كما هو لا يعترف بفلسطينية أبناء يافا وحيفا وعكا وصفد والجليل والشجرة (التي خلدها ناجي العلي) وأم الفحم (ألتي خلدها محمود درويش)، ويصنفهم إسرائيليين (مثله) وكأنهم جاءوا معه أو سبقوه من بولونيا!! أو كأنهم لحقوا به مع من استقدم من فلاشا أثيوبيا أو من “خزرج” الاتحاد السوفياتي!
أخيراً اعترف السيف بالدم، لكن الدم قد انتثر فبات مستحيلاً تجميعه جسداً سوياً واحداً ومتماسكاً وقادراً على الاستمرار في الواجهة البلاد نهاية.
فمؤتمر مدريد الذي يحضره العرب مضطرين بل مجبرين وبمذكرات إحضار ليس محكمة لإدانة إسرائيل، بل إنها وهي فيه كانت التها الحربية تفتك باللبنانيين (العرب) من أهل الجنوب، وتهجر الآلاف منهم فتقذف بهم إلى الضياع وتقصف مدنهم وقراهم البعيدة عن “حدودها!!”، وتلوي يد الجيش اللبناني لتضعه في مواجهة من يقاوم المحتل!
في الوقت نفسه كانت تجرب (في البحر العربي!) الصاروخ المتطور الجديد الذي تنتجه “بالتعاون!” مع الولايات المتحدة الأميركية، راعية “مؤتمر السلام”!
مع ذلك فمن الصعب مناقشة الفلسطيني – بعد كل ما أصابه في أرضه وأرواح بنيه وكرامته – في اعتبار حضوره في مدريد، مجرد حضوره، انتصاراً إذ هو أول اعتراف إسرائيلي (رسمي) به كفلسطيني.
أما بالنسبة لسائر العرب، ولاسيما السوري واللبناني وحتى الأردني، فإن حضوره، أو إحضاره، هو بحد ذاته تنازل أمام الإسرائيلي لأنه اعتراف بنتائج الاحتلال.
يبقى سائر من تبرع من “العرب” بالحضور، برغم وعيه أن حضوره يسيء إلى موقف إخوانه الذين جاءوا مرغمين، ويضعفهم، ويزيد إلى رصيد عدوهم على حسابهم.
في ضوء هذا كله يصبح اللجوء إلى الدعوات الصالحات مشروعاً: اللهم أنا لا نسألك رد القضاء ولكن اللطف فيه!
إنها لحظة تاريخية سوداء.
لكنها لا تجيء من خارج سياق الأحداث والتحولات والتطورات التي يعيشها العرب في أقطارهم العديدة، كما إنها لا تأتي من خارج التحولات التي تهز أرجاء الدنيا، وترسم لها قدراً مختلفاً عن طموحات شعوبها، أقله في المدى المنظور.
والغرق في التفاصيل قد يسلي وقد يعزي ولكنه يفصل بين الموضوع وأهله، كما بين السيف والدم،
فهذا الذي نصف انهياره هو بعض تاريخنا،
وهو الذي نتبارى في سرعة إيصاله إلى الناس هو بعض صور الخيبة والمرارة والسقوط لعصر عربي تقترب شمسه الآن من الغروب.
ولا يستطيع أحد منها أن يطمئن الآخر إلى طبيعة المقبل من التطورات التي ستصنع لنا تاريخنا الجديد، ومن دون حضور مؤثر كالذي يفترضه – نظرياً – الثقل العربي ، أو الحجم العربي أو العدد العربي.
لكنها الحرب، مرة أخرى، ولو بأسلوب مختلف.
ولا بد من خوضها طالما تعذر أن ينتصر الدم على السيف في زمننا الحاضر.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان