تفرج العالم كله يوم أمس على الأمة العربية في أحدث صورة لها: مقيدة بالأصفاد، معصوبة العيني ومرمية في صقيع ذلك الأوتوبيس – السجن الإسرائيلي، تنتظر بعد قرار نفيها من ذاتها أن تعرف عنوانها الجديد!
ولقد يقال إن إسرائيل تتحدى العالم والقوانين الدولية والقيم والأعراف وحقوق الإنسان،
ولكن ماذا ينفع ذلك كله إذا كان صاحب العلاقة أعجز من أن يرد إلا بالتظلم والتفجع والمطالبة بجلسة لمجلس الأمن الدولي يعرف سلفاً إنها لن تعقد، فإذا ما عقدت فلن يصدر فيها أو عنها أي قرار، فإذا ما صدر فلن ينفذ بل سيضاف إلى جدول اللوغاريتم المنهك للذاكرة العربية المكدورة أصلاً بالقرارات العتيقة السابقة والمجففة؟!
ولولا ان إسرائيل تعرف، سلفاً، طبيعة رد الفعل العربي، ومن ثم الدولي، لما اتخذت قرارها المستفز والذي يعادل إعلان الحرب على الأمة جمعاء، بطرد أربعماية فلسطيني من بيوتهم ووطنهم إلى هوة العجز العربي البلاد قرار.
لو إنها كانت تخشى أي نوع من أنواع العقاب، أو الرد ولو المدحود، أو الضغط الفعال، ولو عبر واشنطن وسائر الأصدقاء (؟!) في العالم، لما جرؤت على ارتكاب مثل هذه الجريمة الموصوفة بدليل وسمها بأختام المحاكم الإسرائيلية جميعاً، السفلى منها والعليا إنفاذاً لقرار الحكومة الانتقامي.
إنها تعتقل فلسطين كلها،
بل هي تعتقل الأمة كلها،
فإذا ما صرخ فلسطيني متوجعاً، أو رفع صوته أو يده أو سيفه (إذا ما وجد، والسيف عزيز) لم تتردد عن طرد فلسطين كلها، الأمة كلها، إلى الحد الفاصل بين احتلال إسرائيلي سابق واحتلال إسرائيلي لاحق.
إنها تعرف تماماً سقف رد الفعل، وهو قد جاء كما توقعته بالضبط: امتناع الوفود العربية إلى المفاوضات الثنائية، بالشروط الإسرائيلية، وتحت الرعاية الأميركية (والروسية؟!) عن حضور الجلسة الأخيرة في الجولة الثامنة… وهي جولة قد تكون الثامنة قبل الألف، وقد يكون لها ما بعدها حتى الجلسة الثامنة بعد الألف، فالمفاوضات تغدو – يوماً بعد يوم – غير ذات موضوع، ولعلها متى وصلت إلى “الجوهر” لن يكون في يد الفلسطينيين، خصوصاً، والعرب عموماً ما يفاوضونها عليه!
ليست “حماس” هي المعنية بالطرد، ليست حتى الانتفاضة. بل وليست فلسطين وحدها.
إنه قرار إسرائيلي جديد باعتقال إرادة الأمة كلها، والتشهير بعجزها عن الفعل، عن الرد، عن إثبات حقها في أرضها المجبولة بدمها.
إنه قرار إضافي بالحرب على العرب جميعاً. على تاريخهم ، بالماضي فيه والحاضر والمستقبل. على دينهم ومعتقداتهم والرسالات السماوية والأنبياء.
إن إسرائيل تقولها علناً: كل سرجنت في حرس الحدود الإسرائيلي بموطنين عربيين، فلسطين ولبنان!
والحمدلله أن المرحوم نسيم طوليدانو ليس ضابطاً وليس في جيش الدفاع الإسرائيلي الفخيم، وإلا لطردت إسرائيل العرب جميعاً من كل أرضهم الفسيحة والمنداحة بين الخليج وبين المحيط الذي تنازل لهم عن ظلماته!! فلم يكن اسمه في غابر أيامهم المجيدة “بحر الظلمات”؟!
… وطبيعي أن يقفل لبنان بوابته فلا يستقبل هؤلاء الذين قررت إسرائيل إنهم خطرون على أمنها،
فلبنان ليس حارس حدود للعدو الذي ما زال يحتل بعض أرضه إضافة إلى احتلاله فلسطين،
ثم إن أبسط رد من طبيعة قومية هو تظهير صورة إسرائيل كإرهابي محترف، وعلى مستوى الدولة، وليس كدولة مؤسسات – كما يراها معظم العالم وبعض العرب – لا تصدر أفعالها على الهوى، بل طبقاً للقانون وعلى قاعدة الفصل بين السلطات: فقرار الأبعاد تصدره المحكمة، والمحكمة مستقلة عن الحكومة، والحكومة عن المستوطنين، والمستوطنين عن الجيش، والجيش عن حرس الحدود، وحرس الحدود عن الشرطة، والشرطة عن وزارة العدل، ووزارة العدل عن الأحزاب، والأحزاب السياسية عن جماعات المتدينين، والمتدينين عن المتطرفين الخ.
إن لبنان هو فلسطين الثانية، فعلاً.
وإسرائيل تحاول استخدامه ليس فقط كحديقة خلفية، وإنما كمدى أمني، وكأرض فراغ لا دولة فيها ولا صاحب لها: تقرر لها ما يناسب مصالحها وأغراضها العسكرية والأمنية،
وطبيعي أن يرى لبنان القرار حرباً عليه بقدر ما هو حرب على فلسطين.
إن لبنان أيضاً في الأوتوبيس – السجن الإسرائيلي المقفل.
هو المنفي لا المنفى. وهو الضحية وليس دار النقاهة للأعصاب الإسرائيلية المهتاجة.
ولن ينقص قرار الطرد شعب فلسطين، وهو لن يزيد بالقطع في اطمئنان الاحتلال الإسرائيلي، سواء أفي فلسطين أو في الأرض المحتلة من لبنان.
إنه قد يزيد فقط في حجم الالتفاف حول “حماس”. بل إنه قد يكون الإعلان الرسمي عن انتقال القيادة الفلسطينية إلى يديها، والقيادة السياسية في أرجاء كثيرة من الوطن العربي إلى من يمثلها في نهجها وأسلوبها وخطابها السياسي.
وإذا كان صعباً إلى حد التعذر الرد على الحرب الإسرائيلية بحرب عربية، فإن هذا العسف الإسرائيلي سيستولد “حرب الداخل” على المحتل الإسرائيلي، وسيعطي المبرر الذي لا يمكن رفضه لتحول الانتفاضة إلى حركة تحرر وطن تعتمد – شرعاً – الكفاح المسلح.
… ولولا أن البنادرة مشغولون في تأمين مستقبل البوسنة والهرسك، وبالتوسط بين الطاجيك والأوزبك في أفغانستان، وبالقيام بمهمات جليلة كالطبخ والكنس وجلي الصحون للمحرر الأميركي في الصومال، إذن لكانوا رفعوا سقف الرد العربي على قرار الحرب الإسرائيلية.
للمناسبة: هل أن أهل فلسطين من المؤمنين، أم تراهم وثنيين لم يصلهم الإسلام بعد؟!
قاتل الله ضعف الذاكرة… أفليس المسجد الأقصى في السنجق، أم تراه في بيداوه، أم لعله في جزيرة جربة التونسية، والله أعلم!
فلسطين مشلوحة الآن في صقيع العراء والنفي واليتم.
إلا فلا نامت أعين الجبناء!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان