كأنما لم تعد للعربي علاقة بالحياة إلا عبر الموت: فهو مع الموت وفي ظله يؤكد حضوره بأبهى ما يكون التجلي.
كأنما لا يتوكد المعنى إلا بالنفي البات والقاطع.
أمس، عاش العرب عموماً، والفلسطينيون خصوصاً، ساعات من “الحضور” الكثيف والمنعش، تتقاذفهم أمواج القلق والحيرة والحزن في انتظار أنيثبت اليقين حول مصير ياسر عرفات ورفاقه الذين اختطفت طائرتهم عاصفة رملية عاتية في قلب الصحراء الليبية البلا حدود.
كان الموت يتنقل بينهم فرداً فرداً، فلا يستثني رجلاً أو امرأة أو طفلاً، يهزهم ويفتح ذاكراتهم المغلقة منذ زمن بعيد فيستخرج منها صوراً لعلاقتهم بالحياة، ويدفعهم دفعاً إلى الشارع الذي غادروه منذ زمن بعيد وأنهوا اتصالهم به إلا… عبر الموت!
ألم تتدفق سيولهم فتملأ كل ذلك الشارع الهائل الممتد بين رباط الخيل في المغرب وعدن في أقصى جنوب شبه الجزيرة العربية، لآخر مرة في ذلك اليوم الأغبر من أيلول 1970، حين خرجوا لوداع بطلهم ومستودع أحلامهم جمال عبد الناصر؟!
… ولقد خرجوا مرات أخرى، ومع جولات أخرى للموت، لعل آخرها يوم ودعوا “أبو جهاد”، في دمشق التي نبض قلبها تحية لرمز الكفاح المسلح والعمل الجاد – بغير جعجعة – من أجل التحرير؟!
للمناسبة: أليس لافتاً أن الكثير من العرب يطلقون لفظة “الخرجة” على رحلة الوداع الأخير لفقيدهم، كائناً من كان؟!
استحضر “الموت”، أمس، أو احتماله، فلسطين كلها: بشعبها داخل أرضها، ومن حولها وفي الشتات، بقضيتها التي بات يهرب منها “أهلها” و”أصدقاؤها” القدامى، ويتحايل المفاوضون باسمها على النطق باسمها مواربة أو بالإيماء، وبمنظمتها التي غدت هيكلاً مجوفاً يفتقد الروح والبرنامج، مثلها مثل معظم الأنظمة العربية، تستمد شرعيتها من استمراريتها ومن انعدام البديل أكثر مما تستمدها من دورها الريادي ومن تعبيرها الحي عن أهدافها ومن تجسيدها لطموحات شعبها العظيم.
ولقد كان منظر “الفلسطيني” خصوصاً، والعربي عامة، مفجعاً أمس وهو يتلوى تحت الشعور باليتم المطلق إذا ما اختفى من حاضره شخص ياسر عرفات الذي بات آخر ما تبقى له من دنياه: فهو الماضي المعروف والمختزن في الذاكرة المتعبة، وهو الحاضر البائس، وهو أيضاً بعض معالم الطريق إلى المستقبل… أي مستقبل.
وبغض النظر عن التقويم النهائي لدور هذا الرجل وسياسته، فلا يستطيع مكابر أن ينكر عليه أنه قد غدا “الملخص” لقضية فلسطين و”الرمز” و”الصورة الأخيرة” لحلم قديم كان زاهياً ذات يوم.
وأبأس ما في هذا الواقع أن يكون على ما هو عليه، وأن يحس شعب فلسطين العظيم إن اليتم المطلق يتهدده إن غاب رجل، هو في نهاية الأمر إنسان لحياته أجل ولقدراته حدود ولوجوده نهاية محتومة في يوم ما.
كان ثمة شعور بخطر الانمحاق يتهدد الشعب والقضية، المنظمة والحركة، الانتفاضة و”الاعتراف” – أخيراً – بالاختراع الأميركي الجديد الذي اسمه “المفاوض الفلسطيني”.
وما من شك في أن جميع العرب، وفي طليعتهم الفلسطينيون، قد تنفسوا الصعداء واستعادوا بعض وعيهم بحقائق حياتهم، وهم يسمعون ما يطمئنهم إلى أن ياسر عرفات حي يرزق، وإن شبح الموت الذي جالسهم بالقلق والحزن والحسرة، قد انحسر تاركاً لهم الرمز الملخص لقضية عاشت عليها أمة مجيدة وبنت بحجارتها قصور أحلامها في عزتها ووحدتها وتقدمها وانتمائها إلى العصر.
لكأنما فلسطين قد بقيت ببقائه، في حين أن فلسطين هي علة الوجود ومصدر المجد وهي التي أعطته سماته وقيمته ودوره وحتى موقع الرمز في حركة شعبهاز
متى يبني العربي حياته انطلاقاً من الحياة ذاتها وليس من الموت؟
متى يصبح الموت في حياة العربي هو العارض لا الأصل؟!
متى يصبح العربي أقوى من الموت؟
متى يصبح العربي أهلاً وقادراً على مجابهة الحياة بمستلزمات الحياة، فإذا جاءه الموت بقي بعده ولم ينته منهياً معه كل شيء؟!
على أن فلسطين، بعد هذا وقبل هذا،
تبقى أقوى من الموت… وتاريخ نضالها شاهد وشهيد.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان