بين ما انقشع عنه الغبار في “حرب القرار” في “الشرقية” إن “الدويلة” قد صارت دويلتين، وإن فرنسا والفاتيكان يشكلان الآن – بالتكافل والتضامن – لجنة أمنية – سياسية مهمتها الإشراف على “تطبيع” العلاقات بين “القائدين” المصطرعين والعسكرين المقتتلين على زعامة الطائفة العظمى،
جاءت فرنسا مهرولة تحت راية الصليب الأحمر والإنسانية لتموه الصورة البالية لـ “الأم الحنون” وذكريات الصليبيين القدامى.
وتقدم معها سفير البابا “باسم الرب” ليمنع أو ليوقف “قتال الأخوة”، لكن المهمة الرعوية – على وجاهتها – تظل سياسية بدلالاتها وبالنتائج المتوخاة منها.
ومع تقدير اللبنانيين لهذه النخوة الفرنسية ولهذه الشهامة البابوية فغنهم يشعرون، بمجموعهم، إنهم الأحرص على دماء أشقائهم في الشرقية، وعلى أرزاقهم، لا فرق في ذلك بين رئيس الجمهورية (الماروني) ورئيس الحكومة (السني) وأي مواطن في آخر دسكرة في الجنوب أو قرية في البقاع أو مزرعة في الجبل أو أي حي من أحياء طرابلس الفيحاء.
وبرغم الحرب الأهلية، وبرغم المناخ المسموم الذي أشاعته في البلاد، فإن الجمهور اللبناني، عموماً، ما زال واعياً لحقيقة الترابط العضوي وغير القابل للانفصام بين فئاته المختلفة.
ولعل هذا الجمهور الذي يشعر بأنه الضحية الدائمة لكل جولة جديدة من جولات هذه الحرب التي لا تنتهي، يستقبل باسترابة وحذر شديد، بل بخوف، كل تدخل أجنبي وكل مبادرة تأتي من وراء البحار، لأنه طالما اكتوى بنيران هذا التدخل وباللهيب الحارق لتلك المبادرات التي زادت من أسباب بؤسه بقدر ما فاقمت من خطورة “المسألة اللبنانية” وأضعفت احتمالات حلها العتيد.
وإذا كان هذا الجمهور يقف من طرفي الصراع المسلح في الشرقية على مسافة واحدة وينظر إليهما كشريكين طالما تواطأ عليه (بالقصف المدفعي أو بالتضليل السياسي)، فلأنه يعتبرهما مع أمثالهما في المناطق الأخرى بعض الثمار المسمومة للحرب الأهلية، وبعض العاملين على إدامتها لأنهم يدومون بدوامها وينتهون بانتهائها.
لقد استمع هذا الجمهور باهتمام، قبل سنة، إلى ميشال عون وهو يفتح الملف السري لـ “القوات اللبنانية” ويبرر هجومه عليها بارتكاباتها وتعدياتها وقهرها للناس بالسلاح… بل لعل بعض التأييد الذي ناله جنرال العتم في فترة من الفترات كان مبعثه الوهم أو سوء التقدير الذي ألبس عون لباس “الدولة” أو “الشرعية” وأعطى هجومه صورة تصدي “السلطة الشرعية” للميليشيات.
كذلك فقد استمع هذا الجمهور، بالأمس، وبمزيد من الاهتمام إلى سمير جعجع وهو يكشف “الصندوق الأسود” للعلاقة بين “القوات” وبين عون الذي سرعان ما تحول إلى مغتصب للشرعية وإلى متمرد على الدولة يستخدم بعض “جيشها” ضد وجودها بالذاتز
ولقد صدق الجمهور كل حرف قاله كل منهما في الآخر، وهو يشكر لهما سعيهما إذ وفر كل منهما مضبطة اتهام الآخر، وناب كل منهما عن النيابة العادة في إعداد “الأسباب الموجبة” للمحاكمة ومن ثم للإدانة والتجريم.
كلاهما تقسيمي: كلاهما هدد وحدة الدولة وسلامتها، كلاهما استخدم سلاح الدولة ومواردها ومؤسساتها ضد شعبها، كلاهما تواطأ مع قوى خارجية ضد بلاده، كلاهما نهب واختلس واغتصب.
وأخيراً فإن كلا منهما قد شارك في ذبح الطائفة التي كان يبرر جرائمه الخطيرة ضد الوطن باهتمامه بتأمين أسباب حمايتها وتثبيت موقعها الممتاز على راس السلطة في لبنان.
في ضوء ذلك كله يقرأ الجمهور اللبناني المهمة “الإنسانية” لفرنسا والمهمة “الرعوية” للفاتيكان فلا يجد فيهما معاً ما يطمئن، بل لعل قلقه يتزايد على أهله في الشرقية كما على عموم اللبنانيين وأساساً على مستقبل لبنان، أرضاً ودولة وشعباً نازفاً ومهيض الجناح.
فالجمهور اللبناني يشم في المهمة المشتركة لفرنسا والفاتيكان تلك الرائحة الكريهة للتقسيم،
لكان فرنسا التي فشلت دائماً في العثور على دور وعلى موقع في المسالة اللبنانية قد هبت الآن، وقد واتتها الريح، لتقوم بتنظيم التقسيم، وذلك عبر “تطبيع” العلاقات على ضفتي خندق الدم المسيحي.. النقي!
ولكأن الحلف الفرنسي – الفاتيكاني يكمل مهمته في معارضة اتفاق الطائف، ومن ثم قيام هذا الحكم، المنتدب نفسه برعاية عربية وتأييد دولي واسع، لإعادة توحيد لبنان بدولة الوفاق الوطني العتيدة.
… وإكمال المهمة يستدعي استنقاذ ما يمكن إنقاذه من جبهة المعارضة “الداخلية” ذات الطابع الفئوي داخل الطائفة المارونية لذلك الاتفاق “الأميركي” المعرب، كما يراه الفرنسيون ومعهم الباباز
فالشرعية و”عهدها الجديد” ليست في نظر الفاتيكان ومن ثم فرنسا “البديل” الصالح لميشال عون، ولو اعتبر متمرداً وبالسلاح،
ولكي يبقى ميشال عون، ولو من أجل الابتزاز والاستحصال على إقرار لبناني – سوري – أميركي بدور فرنسي، فمن الضروري أن تتوقف حربه الرعناء على “القوات اللبنانية”، ولا بد من إقناع سمير جعجع بمهادنته ولو إلى حين… بضعة أيام ربما أو اسابيع قليلة في انتظار الموافقة المرتجاة على دور مشروع لـ “الأم الحنون”!
ولا بد أساساً من ضمان عدم “تورط” سمير جعجع في علاقة مباشرة مع الشرعية، سواء اتخذت طابع التحالف أم التواطؤ أم حتى التنسيق، لاسيما إذا كانت ستستند – في العمق – على اتفاق الطائف.
“القائدان” لازمان: فإذا فشل “قائد مسيرة التحرير” في إسقاط الطائف وقتله. فقد ينجح “قائد المقاومة” المستنكف عن إعلان موقف حتى الساعة، في فرض تعديله، باسم المسيحيين المتشددين، بما يعطي فرنسا (والفاتيكان) ما تريده في لبنان والمنطقة.
… ولكن أين لبنان الذي يريدون دوراً فيه، على حساب دولته والشرعية ومشروع الحل المرتجى؟!
هل يريدون دوراً ولكن في قسم من البلد المقسم والقابل بعد لانقسامات أخرى بفضل هذه المبادرات؟!
هل يريدون أن يمسكوا ببابي النفق، عند نهر الكلب، لينظموا سير الآتين إليه عبر “معبر ضبيه”، حتى لو أدى هذا التنظيم إلى قتل الطائفة المحبوسة في ذلك النفق المسدود؟!
ومرة أخرى: أين أهل الطائف، إن كانوا يسمعون؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان