ليست بغداد هي المقصد، ولا تحديداً صدام حسين هو الهدف الحقيقي للطلعة الاستعراضية للطيران الحربي الإسرائيلي في سماء المشرق العربي وصولاً إلى مكة المكرمة بالحرمين الشريفين فيها.
بغداد وصدام والأردن والسعودية كلها أدوات تمويه، أما الهدف الأول والأخير فهو سوريا، وبالتحديد سوريا الذاهبة – مبدئياً – إلى “مؤتمرالسلام”، والتي حققت في الحرب الدبلوماسية المحتدمة حوله نقاطاً وأفقدت إسرائيل الكثير من أسباب قوتها السياسية داخل الإدارة الأميركية وحدت من حركتها الدولية.
… بل إن الموقف السوري، الواعي والرصين، قد سرّع في ارتطام الإرادة العاتية لمحقق النصر الباهر في “حرب الخليج”، جورج بوش، بتعنت إسحق شامير الذي يحاول أن يأخذ نصيبه من هذا النصر على العرب عبر “مؤتمر السلام” العتيد!
فإسرائيل تستخدم اسم صدام حسين مفترضة إنه قد يبرر أي تحرش أو تحرك من جانبها، سواء أكان هدفه الاستطلاع أم الإعداد لضربة جديدة للحصن العربي الأخير الباقي صامداً: سوريا.
إنها تستعدي به العالم على العرب، خصوصاً وإن الجوقة الإعلامية الصهيونية عادت تروج لحكاية السلاح النووي العراقي، مضيفة إليه الآن السلاح الهيدروجيني،
وعبر هذا الاستعداء المجدد تحاول أن تقلب الآية مع واشنطن فبدلاً من الاختلال حول العرب تستدرجها إلى حلف جديد ضد العرب وقوتهم المهولة التي لم ينجح الأميركيون في تدميرها عبر “مسحهم” العراق خلال حرب الخليج.
في هذا السياق تأتي الأخبار المسمومة التي نشرتها “نيويورك تايمز” أمس والتي تستعجل فيها استسلام العرب للشروط الإسرائيلية، وتحرّض على السوريين الذين “لن يشاركوا في المرحلة الثالثة” من “مؤتمر السلام” والتي موضوعها المشكلات الإقليمية مثل الحقوق في المياه والتطور الاقتصادي ومراقبة التسلح”!
كأنما انعقد المؤتمر فعلاً وقطع مرحلتيه الأوليين بنجاح مذهل ولم يتبق أمامه غير المياه والتطبيع،
في الوقت نفسه تدأب الجوقة إياها على تضخيم الأخبار والمعلومات عن زيادة التسلح السوري، كماً ونوعاً، من صفقات الصواريخ الصينية والكورية والبواخر المحمّلة بك تجوب البحار على عينك يا تاجر، إلى الدبابات التشيكية التي تملك سوريا منها الآلاف المؤلفة ولكن زيادتها مائة جديدة ستقلب موازين القوى وتجعل إسرائيل ضعيفة ومهددة بالدمار الشامل!
إن إسرائيل تحاول أن تنقل مسرح العمليات إلى حيث تفترض إنها تحرج الرئيس الأميركي…
فإذا كانت قد ربح عليها جولة عندما صوّرها عبئاً ثقيلاً على المجتمع الأميركي فهي قادرة على أن تحرجه مع هذا المجتمع نفسه (عبر مؤسساته المضمونة كالكونغرس) إذا ما كشفت “انحيازه” إلى عرب صدام حسين ضدها، هي وليدة الحضارة الغربية ونموذجها الراقي ومخفرها الأمامي في هذه المنطقة حيث تتحكم قبائل من الهمج المتخلفين والمدججين بأسلحة نووية بأعظم كنوز الأرض وألزمها لضمان التقدم الإنساني.
إنها تحاول نقل المعركة إلى حيث تفترض إنها “الأقوى” والأكثر حرية في الحركة، هجوماً ودفاعاً، وفي السياسة والدبلوماسية كما في لعبة الحرب!
وصدام حسين ليس هدفاً لا للطيران الأميركي ولا للطيران الإسرائيلي، بل هو قد تحول – مع الأسف – إلى استثمار غربي من الدرجة الأولى، وإلى سلاح ينفع في ابتزاز العرب لصالح الغرب وإسرائيل ولا ينفع أبداً في تخويفهما،
فيوم كان بكامل العافية لم يقاتلهما بالقدرة العراقية المفترضة، وظلت “أم المعارك” و”المنازلة الكبرى” و”الإبادة الكاملة لقوى الكفر والبغي والطغيان” شعارات فارغة على قبور ضحاياه العرب (والأكراد)، أما صواريخ “سكود” فبدلاً من أن تكون فاتحة حرب التحرير المرتجاة تحولت إلى الرصاصة الأخيرة التي صرعت مع العراق (والكويت) فلسطين وسائر الأمة العربية.
لقد أغار الطيران الإسرائيلي على المؤتمر الأميركي مستخدماً السماء العربية المفتوحة،
وبالتأكيد فإن شامير يدرك إن مثل هذه الغارة إنما تستهدف العرب جميعاً، ممثلين بسوريا، فتحرجهم عبرها، أو إنها تحرجها بالذات، فإن هي ردت أضاعت كل النقاط التي حققتها في الحرب الدبلوماسية على هامش “مؤتمر السلام”، وإن هي تجاهلت الأمر مكنت الإسرائيلي من إظهار الفارق الهائل في القوة بينه وبين العرب مجتمعين، وأساساً بينه وبين سوريا، إنه يريد “تصغير” العرب بحيث تنتفي الحاجة إلى المؤتمر.
أو يحاول “تكبير” إسرائيل بحيث لا يتسع لها هكذا مؤتمر،
وفي كل الحالات فهو ينتزع لنفسه هامش مناورة أوسع يمكنه من إجبار الأميركيين على تلبية المزيد من شروطه طالما هم حريصون على انعقاد المؤتمر.
لقد ترك الإسرائيلي للأميركي عبء المعركة حول التمثيل الفلسطيني، مفترضاً أن الخلافات الفلسطينية – الفلسطينية، والمنازعات الفلسطينية – العربية، بدءاً بالأردن مروراً بسوريا وانتهاء بمصر، قد أنهكتهم بحيث لن يصلوا إلى المؤتمر – إذا وصلوا – إلا وقد خسروا أهم نقاط قوتهمك أي وحدتهم معززة ومحصنة بتضامن عربي ما.
… وقصد الإسرائيلي أن يواجه، ولو بشكل غير مباشر، الطرف العربي الأقوى، أي سوريا، وتحت لافتة “صدام حسين”، الدكتاتور المسلح بالنووي!
وبهذا المعنى يمكن الافتراض أن الإسرائيلي، قد باشر هجومه المضاد على المبادرة الأميركية من أجل “مؤتمر السلام”.
لقد قال “نعم” مضطراً، وها هو يجهر برفضه، وبكل أنواع الأسلحة، في البر والبحر والجو، ومن جنوب لبنان إلى الجولان فإلى الجزيرة العربية عبر الأردن والعراق، لكن هدفه سوريا: وبالتحديد هذا القدر من التفاهم السوري – الأميركي الذي يحدث لأول مرة، والذي لا يستطيع شامير أن يتحمله ولو كان في أدنى الحدود.
وبغير هذا الحد الأدنى من التفاهم لا مكان لـ “مؤتمر السلام”،
فإذا تعذر نسف التفهم فلا بد من نسف “المؤتمر”، وهما وجهان لعملة واحدة، ولن يزعج الإسرائيلي أن ينسفهما معاً.
وتبقى الكلمة – الرد لواشنطن،
أما الرد العربي فمن الأفضل أن يتأخر ما أمكن، لأن الحرب طويلة وما تزال في بداية البداية، وهي حتى اليوم “أميركية”.
المهم أن يخطئ العرب فيزجون بأنفسهم في حرب لا مكان لهم فيها، الآن على أقل تعديل.
والحرب أخطر من أن يتخذ قرارها برد الفعل، أو بالرغبة في دفع التهمة بالتقاعس أو بالتراجع أو بالتعامي عن تحليق طائرة تشن غارة على الأعصاب في واشنطن مستدرجة تورطاً عربياً يعفيها من مواجهة ساعة الحقيقة مع حليفها الاستراتيجي الخطير!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان