زرعت الحرب الأهلية في أذهان اللبنانيين مجموعة من المفاهيم الخاطئة والمضللة ولكن “استقرارها” جعلها في منزلة الحقائق أو البديهيات مما سيكون له تأثير مدمر على مستقبل الحياة السياسية في لبنان.
بين هذه المفاهيم: إن السياسة هي الحرب! أو إن الحرب هي السياسية!
وبينها التبسيط المخل لمفهوم الحزب. فالحزب هو الميليشيا والميليشيا هي أداة الحرب، ولعلها “الأداة القذرة”، للحرب، خصوصاً بعدما ألصقت بالميليشيا “مآثر” أولها التشبيح والتشليح والتجاوز وآخرها إضاعة الهدف الوطني بل وتشويهه وتنفير الناس منه.
حتى لقد صار الحزب مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بالكوارث والمآسي التي تعرض لها الناس. صار مجلبة للمصائب. فـ “الأحزاب هي التي خربت البلاد”، و”الأحزاب هي التي مزقت وحدة الشعب” و”الأحزاب لا تعيش إلا بالحرب ومنها”.
صارت الأحزاب في نظر جمهور عريض آفة اجتماعية لا يستقيم وضع البلاد إلا إذا تم تدميرها أو حلها واطمأن الناس إلى اندثار دورها في الحياة العامة!
توحدت صورة الحزب والميليشيا، وأمحت الطروحات العقائدية والبرامج السياسية في خضم الممارسات الشاذة للميليشيات.
والأخطر إن الميليشيات بدت وكأنها “الناقل” أو “الجسر” بين الطائفة والحزب، فكل حزب أقام ميليشيا أو تحول إلى ميليشيا إنما هجر موقعه العقائدي المزعوم مرتداً إلى جحر الطائفة.
بل لعل الميليشيات الطائفية الصريحة كانت مقبولة أكثر، إن كأمر واقع أو كمصائب لا راد لها، من تلك الأحزاب التي طالما باعت الناس أوهاماً عن التقدم والتغيير والديموقراطية والعلمنة ثم انتهت بأن تنضوي (وتقاتل) في خاتمة المطاف تحت رايات الزعامات أو القيادات أو التنظيمات الطائفية المسلحة وبشعارات بحت طائفية وأحياناً بحت مذهبية.
ولقد كان سقوط الأحزاب العقائدية والسياسية نتيجة مباشرة لسقوط الدولة، وتهاوي النظام الذي طالما ناضلت ضده.
يمكن أن يقال أيضاً إن سقوط الدولة وتهاوي النظام كان يتضمن بين أسبابه العديدة سقوط الأحزاب العقائدية والسياسية واضمحلال الصراع السياسي في حماة حروب الطوائف والمذاهب والعشائر المسلحة.
فلكي يقوم ويستوي نضال من أجل تغيير النظام وإصلاح الدولة يجب أن تقوم أولاً دولة لها نظام ما، أي نظام،
لا يكون النضال ضد أشباح أو ضد أوهام، ولا يمكن إحداث تغيير ما إلا في الواقع المعاش والملموس.
وإذا كانت الطائفية في أساس سقوط الدولة (ومن ثم في فرض الاصلاح السياسي ولو بقدر معلوم على أهل نظامها)، فإن الطائفية ذاتها كانت في أساس سقوط الأحزاب بعدما أصابها التشوه وفقدت رصيدها وبريقها الجاذب بوصفها وعداً بالغد الأفضل… هذا قبل أن نصل إلى الممارسات المرفوضة والمستنكرة للقيادات الحزبية، بعضها أو معظمها، والتي دمغت العمل الحزبي بالسوءات ذاتها التي كان يؤاخذ عليها أعضاء النادي السياي من التقليديين.
لقد كان بين روافد الرصيد الشعبي لتلك الأحزاب: دورها في فضح مساهمة الحكم في تطييف الدولة وتحويلها إلى مزرعة لفئة مهيمنة، وإسهامها في كشف عورات النظام السياسي وقصوره عن تحقيق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية، وتميز قياداتها ومناضليها بالمسلك الشخصي عن ذلك الطقم الفاسد المفسد من السياسيين، ورثة الإقطاع وحماة التخلف الاجتماعي بثالوثه الشهير الفقر والمرض والجهل.
وهكذا بعد سقوط الدولة والأحزاب العقائدية خلا الجو للميليشيات الطائفية فباضت وأفرخت، وهيمنت على الحياة العامة في البلاد وطبعت الطور الأخير من أطوار الحرب الأهلية بطابعها الكريه.
والمعضلة الآن: كيف نستنقذ الأحزاب العقائدية والسياسية، أو ما تبقى منها، أو كيف تستنقذ نفسها وتستعيد اعتبارها بوصفها ضرورة حيوية حتى لا يأتي زمن السلام الوطني معقماً ضد السياسة والعمل السياسي والتنظيم الشعبي بوجه الإجمال.
فإذا كانت السياسة هي الحرب فإن السلام لا يمكن أن يتوطد إلا إذا استؤصلت جرثومة السياسة (ممثلة بالأحزاب واستطراداً الصراعات العقائدية والفكرية).
والمعادلة مفزعة: فراغ سياسي في دولة قيد التأسيس؟!
وشارع بلا رأس وبلا قيادة وبلا قضية بينما القضايا أكثر من أن تحصى وهي بحاجة إلى جهد كل مواطن، فكره وعقله وعاطفته الوطنية وإصراره على حماية حاضره ومستقبل أبنائه.
إن العمل السياسي يكاد ينحصر، في هذه اللحظة، بالحكم والحكومة، حتى لكأنه “اختصاص” دقيق وعال لا يبلغه إلا سعداء الحظ ومن دعت لهم أمهاتهم في ليلة القدر.
ومن هنا إصرار القيادات جميعاً على دخول جنة الحكم باعتباره، وحتى إشعار آخر، النادي السياسي الوحيد في البلاد!!
والمفارقة طريفة: فمكافأة من هجر العمل السياسي ، بما هو صناعة الحرب، تكون بتنسيبه إلى الحكومة – أي النادي السياسي الوحيد – وإشراكه في اصطناع السلام!!
ولا مكان للمعارضة ولا مجال للنضال ضد الحكم.
فالحكم، في هذه اللحظة، هو الوحدة الوطنية أو يجب أن يكون،
وبمعنى كاريكاتوري يبدو وكأن المعارضة (السابقة) مرشحة لأن تدخل النادي السياسي فتحكم تلك الرعية التي كانت تعارض هذه “المعارضة” أيام كانت تتحكم بالشارع وتستبدل السكان وتعيد توزيع الثروة بين خلق الله الضعفاء أمام جبروت السلاح!
ثم إن الأحزاب (القديمة) أي العقائدية، هي وحدها التي ستعاقب للمرة الثانية: إذ ستحرم من جنة الحكم بعدما سقطت عنها الأهلية التي تعطيها الحق بالمعارضة.
وعبر هذه الأحزاب يعاقب المواطن والعمل السياسي مرتين: فحين تطيفت هذه الأحزاب، أي حين انزلقت إلى حماة الطائفية كانت تخسر نفسها وتتسبب في خسارة المواطن (المناضل) ماضيه، وها هي الآن تخسر مستقبلها وتتسبب في أن يخسر المواطن قضيته ومعها حقه في العمل السياسي بما هو نضال من أجل الغد الأفضل.
والأمر خطير جداً في تأثيراته على مستقبل البلاد وطبيعة نظامها “البرلماني الديموقراطي”، خصوصاً في غياب “الدولة – الأم” أو “القيادة التاريخية” أو “الحزب الحاكم” أو حتى “دكتاتورية المستبد العادل” التي مات الشيخ بيار الجميل وهو يروج لها ويطلبها لنفسه أو لذريته من بعده.
ما العمل؟!
الجواب، بداية، عند الأحزاب ذاتها،
فهل غادرت الأحزاب زمن الحرب فعلاً، وهل أعدت نفسها لزمن السلام،
أم إن قياداتها مشغولة بالأهم مما نعرف وتعرفون؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان