على الطريق
عن الدولة والميليشيات أيضاً:
“حسنة وأنا سيدك”؟!
… وفي لبنان أيضاً اعتمدت، في ما يبدو، نظرية “الأرض مقابل السلام”!
مع إضافة “فينيقية” بسيطة: … والحكم بمنافعه وامتيازاته وأبهة العز فيه!
لكأنما الحكم “يبارز” الميليشيات ويقايضها سلطة شرعية بتسلط مرفوض، ومصادر للكسب الحلال بدل الخوات والأتاوات وضروب الجزية ورسوم المرور والعبور التي تفرضها على أسباب العيش اليومي من الطحين إلى الخبز ومن النفط إلى المنتجات الزراعية والصناعية، هذا قبل أن نصل إلى ضرب العملة الوطنية بالمضاربة على الدولار!
البعض يقول: لا بأس، فلينتقلوا من خلف المتاريس إلى كراسي الحكومة ومقاعد النواب، وليهجروا السلاح مستعيضين عنه بالمناقشات والمحاورات المسؤولة داخل مؤسسات الشرعية، فذلك لو تم أمر عظيم!
وبعض آخر يقول: لا يهم الثمن الذي تدفعه البلاد لإنهاء زمن الحرب. المهم أن نخلص، أن نستشرف زمن السلام الوطني، وفي ظل مناخه الصحي لا يبقى ولا يدوم إلا من ينفع الناس و إلا من يخاطب مصالحهم وليس غرائزهم، فالحياة كفيلة بإصلاح أخطاء دهر الحرب الأهلية وخطاياه الكثيرة.
ولقد يصل بعض ثالث إلى القول: وماذا في الأمر؟! إن الدولة، وبوصفها المسؤولة عن الوطن كله والمواطنين جميعاً تحاول أن تستعيد الأرض والشعب ممن كان يتخذهما رهينة وصحيح إنها الأقوى بين الضعفاء ولكن حرصها على سلامة “الرهائن” والتعجيل باستقدام عصر السلام الوطني
الدولة وباسم الشرعية – ملائكة وشياطين وكلهم في الخطيئة سواء”؟!
من الصعب رفض هذا المنطق طالما أن الهدف هو الوصول إلى تسوية سياسية بقاعدة طائفية تشكل الخاتمة غير المعترض عليها للحرب الأهلية.
لكنه يظل من الضروري تسجيل بعض الملاحظات أو التحفظات ومنها:
*أولاً – إن الدولة، بالأرض والشعب والمؤسسات، يجب أن تكون خارج نطاق المناقشة بل المساومة، بمعنى أن لا مكان فيها ولا مجال لمفاوضة العاملين لدولة دينية أو لتقسيم “الكيان” دويلات طائفية أو كانتونات مذهبية أو للمنادين بالفيدرالية والكونفدرالية وسائر أنماط الطروحات الانفصالية.
كذلك فلا مجال على الإطلاق للمساومة على الهوية العربية للبنان وانتمائه القومي والتزامه بأهداف نضال أمته، كائنة ما كانت عليه حالة الأمة.
*ثانياً – إن النظام الديموقراطي البرلماني هو الآخر خارج نطاق البحث، من حيث المبدأ، مع ضرورة فتح الباب لمناقشة تطبيقاته انطلاقاً مما ثبته اتفاق الطائف وباعتباره الحد الأدنى وليس الحد الأقصى أو خاتمة المطاف.
إن اتفاق الطائف مدخل إلى تجديد الحياة السياية في لبنان، وإطار لبعث المؤسسات الدستورية وتمكينها من استعادة دورها المنظم لممارسة الديموقراطية، وليس ذروة الطموح لدى القائلين بالتغيير والعاملين له. وهم في أي حال موجودون في مختلف المعسكرات والمتقاتلة أو المقتتلة.
إنه وعد بالحل، وعد بالسلام الأهلي، ولكنه ليس ولا يجوز أن يكون نهاية المطاف وقدس الأقداس الذي لا يمس ولا يأتيه الباطل من خلفه أو من قدامه.
*ثالثاً – إن صورة الحكم. كمؤسسة، يجب ألا يطالها التشوه. يجب ألا “يتعسكر” الحكم ويكتسب ملامح مستعارة من الميليشيات المختلفة. ليكن الجميع داخل الحكومة ولكن بشرط أن تظل “مؤسسة مدنية” وعصرية.
بمعنى آخر فلا يجوز أن يكون رموز الحكم في لبنان أو آخر القرن العشرين بعض من يعتبرهم العالم المتمدد، وبكل المعايير، أعداء المجتمع المدني.
إن الحكم هو مصدر صكوك البراءة والغفران.
والحكم هو، بشكل ما، شهادة الانتماء إلى العصر، بمفاهيمه الثابتة وتحولاته المذهلة.
ثم لا بد من ملاحظات أخرى في السياسة، بينها:
** إن الموقف هو الأساس، أو يجب أن يكون، وليس حجم الأرض المهيمن عليها بقوة السلاح.
فمجلس الوزراء ليس مؤتمراً دائماً للعصابات المسلحة، وليس قيادة جماعية للمافيات المتصارعة، وليس هيئة تنسيق بين الجناة والضحايا.
كذلك فالمجلس النيابي ليس “مطهراً” وليس “إصلاحية” للأحداث يرسل إليها من هو بحاجة إلى “تهذيب وإرشاد”،
** إن أمراء الحرب الأهلية من قادة وفعاليات وتجار طائفية هم المطالبون بالتكفير عن ماضيهم وعن طروحاتهم السياسية الخاطئة والمنحرفة وعن أنماط تحالفاتهم التي لامست، في بعض الحالات، حافة الخيانة العظمى. وليس من حقهم أن يضعوا شروطهم على الدولة أو الحكم، خصوصاً وإنهم لا يستطيعون – برغم سلاحهم وربما بسبب سلاحهم – أن يستمروا خارجهما.
** إن هؤلاء القادة لا يملكون الحق في ادعاء التمثيل الحصري للطوائف أو المذاهب أو المناطق والجهات، ولقد كان مفهوماً أن يرفعوا أصواتهم بمثل هذا الادعاء لتثبيت مواقعهم “كأبطال” في الحرب الأهلية، أما في زمن السلام الوطني وفي ظل الدولة فيفترض أن يقدموا أنفسهم للامتحان وأن يكون بين شروط قبولهم تخليهم عن مثل هذه الادعاءات التي لم تعمر إلا لأن السلاح كان يمنع سقوطها وتقدم البديل.
إنهم رموز حقبة كالحة في تاريخ البلاد. هذا صحيح. لكنهم ليسوا، بأي حال، نموذج القيادات المرتجاة للغد الأفضل الموعود.
وليس منة عليهم أن يُقبلوا في بعض مؤسسات الحكم الشرعي كأمر واقع، ولكن ليس من حقهم أن يعنوا على اللبنانيين أو على الحكم الشرعي بأنهم أصحاب فضل عليهم وعليه على طريقة “حسنة وأنا سيدك”!
لقد هيمنوا في غياب الدولة، أما وقد سلموا بضرورتها فقد سلموا بضرورة أن يعودوا إليها وأن يعيدوا إليها ما اغتصبوه أو اختلسوه من كرامتها ومرافقها ومواردها الكثيرة.
ولقد فرضوا تسلطهم على الأرض حين صارت مشاعاً مباحاً لكل ذي سلاح، أما وهم يطلبون السلطة الشرعية فلا يجوز أن يبقى شبر واحد خاضعاً لتسلطهم من وراء ظهر الدولة أو من فوق رأسها.
ولقد احتكروا تمثيل الناس حين افتقد الناس ملاذهم الطبيعي، في الدولة. أما وقد عادت الدولة فلا يجوز أن تقبلهم كرديف لها أو شريك أو بديل محتمل.
وأخيراً فإن “المجتمع المدني” قائم بعد في لبنان، ولولاه لتعذر إنهاء زمن الحرب. ومن دونه لا مجال لقيام سلام وطني يتعزز بإعادة إعمار ما هدمته الحرب وتجديد لبنان.
وهذا المجتمع المدني، أي الدولة ومؤسساتها الشرعية والشعب الموحد بعد برغم كل أهوال الحرب الأهلية، هو صاحب الحق في الحكم وليس مصدر السلطة نظرياً وفقهياً فحسب.
أليس هو من اعتمد قاعدة لاتفاق الطائف؟!
ثم أليس هو من اجتمع على تأييده ومساندته الشرق والغرب، والعرب والعجم والخلق أجمعين؟!
وأخيراً فليس هو من يدعي تمثيله الآن أمراء الحرب إياهم بعد تقسيمه إلى طوائف ومذاهب وجهات ومناطق طالما سورت بالمدافع والراجمات والسواتر والألغام لتبقى “الزعامة للزعيم” وحده لا شريك له؟!
وهي بشرى أن تنتزع الدولة عاصمتها من براثن الميليشيات.
ولكنه سيكون يوماً أسود إذا ما تمكنت هذه الميليشيات من انشاب براثنها في عنق الدولة…
وإنها لقسمة مرفوضة أن “تعطينا” الميليشيا بعض الزواريب والشوارع، التي لا تستطيع بعد أن تستمر في فرض تسلطها عليها، مقابل أن تأخذ منا الأرض كلها والدولة والمؤسسات والشعب المقموع بقوة السلاح.
ثم إن مقسمي الأرزاق والحصص ينسون تماماً أو يسقطون من حسابهم دور سوريا، بما هي شريك في القرار الوطني، ليس فقط بقوة الجغرافيا ومنطوق اتفاق الطائف وبطلب الشرعية وإلحاحها، وإنما أيضاً يوجه دماء جنودها الذين استشهدوا من أجل أن نقوم في لبنان دولة لها مؤسساتها الشرعية ولها أرضها المحررة من رجس الاحتلال كما من رجس الطائفية وإفرازاتها السياسية والعسكرية جميعاً.