للمرة الثالثة خلال قرن واحد تبدو روسيا وكأنها مؤهلة ومدعوة لتغيير مسار الأحداث في الكون، وبدم الفقراء من عمال وفلاحين فيها.
وإذا كان من المبكر الحكم على الصورة النهائية للوضع في روسيا وسائر البلاد التي كانت تنضوي تحت لواء “الاتحاد السوفياتي”، فإن الصراع بين الرفاق القدامى الذي “خانوا نظامهم” متصدين لبناء نظام جديد مقتبس بطريقة كاريكاتورية عن النظام الأميركي، قد انفتح على مصراعيه ولن يقفل في المدى المنظور.
لقد أنهى ميخائيل غورباتشوف المرحلة الأخيرة من عمر النظام الشيوعي، لكن خلفاءه، من بوريس يلتسين إلى رسلان حسب اللطيف فإلى الجنرال روتسكوي، يظلون أقرب إلى شخوص المرحلة الانتقالية منهم إلى الأبطال المؤسسين لثورة جديدة لذلك العالم الروسي الهائل الاتساع والقوة الكامنة، العظيم الغني بالحقائق والأساطير والرجال الممتلئين بشعور المسؤولية عن الإنسان في كل أرض.
ونادراً ما خرجت روسيا من كنف المأساة.
ونادراً ما عاش “الروسي” حياة طبيعية.
ومن المستحيل أن تكون روسيا دولة وسطاً، فهي إما قوة عظمى، كإمبراطورية مقدسة بالشعار الديني أو كمعسكر ينضوي تحت علمه الأحمر نصف الكون بولاء أعمق للعقيدة التي قدمت نفسها بديلة عصرية للدين: أكثر إنصافاً للإنسان لأنها تعالج همومه هنا على الأرض بدلاً من إحالتها إلى المرجع الصالح الخالد في السموات.
لذا فلسوف تستمر الانقلابات على الانقلاب، في موسكو كما في سائر عواصم العالم الروسي، حتى يمكن العثور على صيغة ترضي التطلع إلى أعلى بغير أن تتجاهل واقع التردي تحت.
وقد تكون هذه فرصة ثمينة للحزب الشيوعي الروسي، كما لأحزاب الدول “السوفياتية” القديمة، كي تعيد بناء نفسها خارج السلطة وبالتعارض مع السلطة إلى حد منازلتها بالجماهير أو حتى بالسلاح، بما يمكنها أخيراً من الوصول إلى السلطة بالجدارة وبالأهلية وبالقدرة على بناء الغد الأفضل وليس بقوة الجيش الأحمر… العقائدي!
لقد اغتال النظام الشيوعي القديم الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي والعقيدة الماركسية، لكن النظام الرأسمالي المستورد حديثاً من الولايات المتحدة الأميركية لم يستطع لا استبقاء الدولة العظمى، ولا استيلاد كومنولث أو رابطة مقبولة بين الدول السوفياتية السابقة، ولا حتى حماية روسيا بحد ذاتها.
انهار كل شيء وأفرغت الساحة للفوضى، خصوصاً وإن الرجال الذين استولدهم زمن الانهيار ليسوا مؤهلين لمحاورة الغد.
إن الأبطال التاريخيين شرط للبدايات، أما النهايات فيمكن أن يضعها الأتفه والأردأ والذين يدين للمصادفة بالفضل عن ذكر اسمه.
على امتداد السنوات الثلاث الماضية كانت روسيا مسرحاً لكل ما هو غير معقول وكل ما هو غير مقبول، وكانت السكاكين تعمل فيها تمزيقاً وتقطيعاً، وكان عجزها فوق التصور، حتى لقد فرض التساؤل نفسه جدياً: هل كان الاتحاد السوفياتي في أي يوم دولة عظمى؟!
في أي حال، كان الأعلام الغربي يروج للديموقراطية الجديدة التي ولدت من رحم النظام القديم المنهار ثم تمكنت من القضاء عليه.
كانت “الجماهير” مادة يومية لوكالات الأنباء ولمصوري شبكات التلفزيون الأميركية العملاقة: الجماهير تواجه الدبابات وتهزمها. الجماهير تنتصر على الجيش بالحوار الحر وتفرض عليه العودة إلى معسكراته.
من موسكو إلى بكين، مروراً ببوخارست وصوفيا وبراغ وبرلين (الشرقية)، كانت قصائد الشعراء لا تجد لها موضوعاً إلا الجماهير الخارجة بالغضب ضد الأنظمة الدكتاتورية وقمعها، ضد العسف وكم الأفواه والاعتقالات وصحف الرأي الأوحد…
إلى ما قبل ثلاثة أسابيع كانت حقول الديموقراطية تزهر وتنشر عطر اقتصاديات السوق في كل مكان، حتى كادت “الجماهير” تنافس الأساطيل وجحافل “عاصفة الصحراء” وتفرض نفسها كشعار للنظام العالمي الجديد، فجأة، حل الغضب على “الجماهير” ففقدت مرتبتها الممتازة، واستعيدت التوصيفات البائدة من نوع “الغوغاء” و”الدهماء” و”المخربين” و”العصابات” مع نعوت سيئة أخرى مثل “المحافظين” و”المتطرفين الذين يريدون فرض التحجر أو إعادة التاريخ إلى الوراء”!
لكأنما انتهت اللعبة بعكس ما أريد منها، وانقلب السحر على الساحر!
فلفترة غطت العقدين السابقين، استعاد المعسكر أو النظام الرأسمالي زمام المبادرة وارتد على الشيوعية يحاربها بسلاحها: الجماهير والشعارات المنادية بحقوق الإنسان.
كانت الشيوعية، وعلى امتداد قرن كامل امتد حتى الخمسينيات، هي صاحبة الوعد،
كانت هي مانحة الأحلام وبانية قصور السعادة للمتعبين والأشقياء في الأرض،
فالشيوعية من دون غيرها من العقائد والنظم كانت تعد الناس بعالم بلا حروب، وبنعيم إنساني لا مستغل فيه ولا محتكر، لكل فيه حسب حاجته ومن كل حسب طاقته…
حتى جاءت الرأسمالية في طبعتها الأميركية ممتلئة بالحيوية وروح العصر فانتزعت المبادرة وسرقت الجمهور عبر تفتيته إلى أفراد،
اختفت الأمة، الشعب، الجمهور، الناس ، وبرز الفرد، ووضعت حقوقه مقابل الحقوق الجماعية، فإذا به ينحاز إليها، خصوصاً وإن التجارب الجماعية لم تخلف له غير الكوارث سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
“دعه يعمل، دعه يمر” “صوت واحد للرجل الواحد”، الخ
للمرة الثالثة تبدو روسيا مدعوة لتغيير مسار الأحداث في الكون،
فهل هي مؤهلة، بخلاصة تجاربها العظيمة قبل القيصرية وبعد الشيوعية للمبادرة إلى المباشرة في صناعة تاريخ جديد، للإنسان والجماعة؟!
لا مجال للإجابة الآن، لكن السؤال مشروع.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان