في الليل الصحراوي يحلو السمر ويطيب للسمار من البرلمانيين اللبنانيين أن يتأملوا، وسط الهداة الشاملة والنور الشاحب للهلال الوليد لربيع الأول، خيوط الفجر الأولى تطل عليهم مشبعة بعبق التاريخ.
أسماء الأمكنة هنا لها رنين ولها هالة من القدسية لارتباطها بانطلاقة الرسالة فمن حول الطائف تتناثر المواقع التي يكاد يعرفها كل مسلم أو كل محرم.. حيث يبدأ الإحرام. وفيه مسجد المبقات، وغير بعيد عن الميقات – قرن المنازل (أو السيل الكبير)، ثم مسجد عداس، ومسجد الكوع (الذي صلى فيه الرسول) ، ومسجد “حبر الأمة” عبد الله بن عباس (عم الرسول) ومسجد حليمة السعدية (مرضعة الرسول) في بني سعد الخ.
تلك، في أي حال، أيام الدين، واليوم نحن في الطوائف، وشتان ما بين ذاك وهذه مما يشغل بال “البرلمانيين اللبنانيين” المحددة إقامتهم في قصر المؤتمرات الفخم عند المدخل الشرقي لهذا المصيف الملكي الذي يقوم على كتف مكة المكرمة لا تفصله عن العاصمة الرسمية، جدة، إلا مسافة ساعة وبعض الساعة بالسيارة “المكندشة”،
كل شيء “مكندش” من حولهم، وهم في قلب “التكييف”، ومشكلتهم ذاتها تكمن في التكييف : تكييف المواقف مع مقتضى الحال، أو تكييف المأمول مع المطلوب، أو تكييف النص مع الواقع طالما تتعذر صياغة دساتير وقوانين مرعية الإجراء.
“برلمانيوكم مدهشون”.. يقول وزير خارجية الجزائر الجديد على الدبلوماسية والجديدة معرفته بالبرلمانيين اللبنانيين، ولا تكشف ملامحه “هل هو هازل أم جاد، خصوصاً إذا ما افترضت إنه يرى فيهم صورة لما سوف يكون في جزاير التعددية السياسية التي حمله التوجه نحوها إلى المنصب – ولكن يا سي غزالي..
يكمل ما أراد قوله: لقد استمعت بلقاءاتي معهم.
تتسع ابتسامة الأخضر الإبراهيمي، صاحب التجربة العريضة في هذا المجال وتلمع عيناه بكثير من الكلام الذي لا يقال.
تقتعد الطائف قعر الكف. تتسلق بعض أحيائها الهضاب التي تتدرج ارتفاعاً حتى تبتلعها الجبال الحاسرة الرأس، بل الرؤوس الحادة والكالحة اللون معلنة إن البرلمان مر من هنا في الماضي السحيق.
ويهز البرلمانيون اللبنانيون رؤوسهم بشيء من الحسرة ويتساؤلون أترانا، بما نحن عليه، قادرين على إخماد “البرلمان” الذي يكاد يحول لبنان إلى رماد؟!
… وكأي مدينة جبلية تنقسم الطائف إلى حارات تحت وحارات فوق، وعلى التلال المشرفة تتناثر بعض القصور ودور الأعيان والأثرياء وكبار الموظفين، يلفها من الخارج ويربط بينها وبين الجوار “طريق فهد الدائري”.
“قصر المؤتمرات” حيث يمارس البرلمانيون اللبنانيون هواية الجدل، ويأخذهم إلى سوق المدينة “شارع السلامة”،أما المركز الاعلامي حيث “يتصنت” عليهم الصحافيون ففي “مسرة” عند الطرف الجنوبي للمدينة قرب المطار.
المسافة واسعة بين الصوت وبين الصدى.. ولا بد من الهاتف لكي تسمع بيروت (ومن فيها) وسائر العواصم، ما يقوله أو ما كان ينوي قوله أو ما يراد أن يعرف من قوله، السادة البرلمانيون، والحشد الصحافي العاطل عن العمل مستعد لأن يقوم بدور “مكبر الصوت” أو “منقيه”، وكذلك بدور “المترجم” و”الشارح” و”المفذلكط و”السكرتيريا” إذا لزم الأمر.
المهم أن يقول السادة البرلمانيون،
المهم أن يستيعدوا ما افتقدوه – بحكم البطالة – لياقتهم البدنية والمهنية، وأن يستذكروا ما كان يفترض فيهم أن يقوموا فيه، وما لا يقومون فيه ولا مهرب من مواجهته الآن، ولو جاء متأخراً.
هل ما زالوا مؤهلين وقادرين على الإنجاز الخطير؟!
هل ما زالت الذاكرة قادرة على استعادة ما كان وإعادة تقييم جداوه، في ظل يقظة ضميرية لا بد منها في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة.
هل تراها جاءت ساعة التكفير عما تقدم من ذنوبنا وما تأخر؟!
في ليل الطائف الصحراوي المنعشة نسائمه، وعلى النور الشاحب لهلال ربيع الأول السابح بين أسنام جبل الغمير وجبل الطويرق وجبل منتزه مسرة، يحلو السمر، وتخفت الأصوات فتختفي منها الحدة، ويتسع المجال لشيء من الاعتراف الحميم والنقد الذاتي الذي لا بد منه، “لو إننا فعلنا”… “لو إننا لم نفعل”…
تتنامى شجيرات “لو” فتصير غابة، ويتساقط الندم مطراً أسود وتتقطع الأنفاس في زفير الحسرات!
من زمان هجر مجلس النواب السياسة، أو إنها هجرته إلى حيث تمركز وتمترس اللاعبون، المحترفون منهم والهواة، المستقوون بسلاح السلطة والمتسلطون بقوة السلاح.
من زمان وزمان لم يمارس البرلمانيون اليسياسة. خدموا سياسات “السادة”، استخدموا لتمرير سياسات . سخروا لتبرير سياسات.. في بعض الحالات كوفئوا بسخاء على جهدهم المشكور في التزام الصمت (حيث توجب الكلام) والتحصن بالقناعة التي هي كنز لا يفنى وتركوا المسرح لأرباب اللعبة وفرسانها الميامين.
من زمان؟!
يجب أن تكون قوي الذاكرة جداً لتستعيد واحدة من تلك الحالات التي عمل فيها النواب في السياسة، أو تلك التي أثبت فيها المجلس إنه “سيد نفسه”. لقد كان في الغالب الأعم “في خدمة السيد”.
دائماً كان البرلمان مصدر الشرعية، ودائماً كان يمنحها للحاكم، أي للآخر القادر، ثم يغرق في البطالة وانعدام الدور إلا كشاهد زور.
أبداً لم يقل البرلمان “لا”! وحتى حين كان يجبر على قولها كان ينطقها مسبوقة بما يؤكد تبعيته: “نعم، لا… أنا موافق على اللا، ولم أكن أقصد الاها حين رفعت يدي بالتاييد”!
أبداً لم يواجه مجلس النواب رئيس الجمهورية، الحاكم المطلق. لم يعترض على أي قرار اتخذه، لم يرفض له رغبة. لم يرد له طلباً مهما كان شاذاَ وخارجاً على العرف والقانون والقواعد المرعية الاجراء.
بين الدستور والرئيس كان المجلس مع الرئيس،
بين الرئيس وبين الشعب اختار المجلس دائماً الرئيس. لم يحاول، ولو مجرد محاولة أن يكون على الحياد، أن يكون وسيطاً وساعياً بالخير ومن أهل المعروف.
ولقد كان المجلس ينتحر بحماسة ويتلذذ، في كل مرة… وكان ينبطح أمام صاحب الفخامة ليرجوه باستعطاف: تفضل كلني يا مولاي!
… ونادراً ما اعتذر الرئيس عن عدم الأكل، فشهية الرئيس مفتوحة دائماً لالتهام شرعية المؤسسات الأخرى ودورها. فهو الأول والآخر والأوحد: مصدر الشرعية ومآلها، غايتها ومبتغاها وعلة الوجود.
والحقيقة، طالما إنها لحظة اعتراف، فإن الزيادة المفرطة وغير المقبولة في صلاحيات رئيس الجمهورية والتي تجعله يتجاوز – في الممارسة – أي إمبراطور أو شاه أو دكتاتور، إنما هي الوجه الآخر للنقص الفاضح في ممارسة مجلس النواب لدوره واضطلاعه بمهمته البديهية: أي جماية الدستور والمؤسسات الدستورية والشرعية والدولة وصولاً على الحكومة ورئيسها المهيض الجناح.
ما نقص هنا زاد هناك، وكانت النتيجة أن وصلنا إلى الوضع المأساوي الراهن: حاكم مطلق غير مسؤول بصلاحيات تشمل مختلف وجوه الحياة والموت، ومسؤول لا يحكم ولا يستطيع تحريك بند في اعتماد أو تعيين حاجب فضلاً عن ادعاء المشاركة في تقرير سياسة!
الليل الصحراوي في الطائف ينشط الذاكرة، وفي النور الشاحب لهلال ربيع الأول تستعيد الوقائع المنسية حجمها الأصلي.
من هذه الوقائع التي لا ينكرها مكابر : ليس في البرلمان، وبين البرلمانيين اللبنانيين، إلا قلة جداً من السياسيين هم يسمون في العامة “الأقطاب”. “الباقون” تكنوقراط، ورجال أعمال، محامون وأعيان، أو مجرد محظوظين حملتهم الأقدار إلى حيث لم تصل بهم الأحلام!
نفر قليل، بل أقل من القليل، بين النواب يحتسبون “حزبيين”، وما هم بمنتمين ولا تلك التكايا التي ينسبون إليها بأحزاب، بأي معنى من المعاني قديمها والحديث.
… وهؤلاء “الحزبيون” من البرلمانيين نوعان: نوع يدعي انتساباً إلى حزب زعيم الطائفة، ونوع ينتسب طوعاً أو منفعة أو بالتبعية إلى طائفة الزعيم (الطائفي أصلاً) أو من رعاياه المخلصين.
“الأقطاب” وحدهم السياسيون، وهم هم “الرؤساء”: رؤساء الحكومة ، في العادة، أو رؤساء المجلس، أو رؤساء العشائر التي لما تتحول إلى أحزاب وإن كانت أقوى وأمنع.
بين 62 برلمانياً هنا ليس إلا ثمة بضعة أشخاص يمكن اعتبارهم، إذا ما تساهلنا بالمقاييس، حزبيين.
وإذا ما أخذنا بالاعتبار مدى التداخل بين الطائفة وبين الحزب، أو بين العشيرة أو القبيلة أو الأسرة العريقة المجددة باسم الحزب وتحت لافتته فلسوف نعيد النظر في عددهم وبالكاد يبقى منهم واحد أو اثنان!
حتى هؤلاء، ومع الاحترام للتاريخ، فهم “بقايا” أحزاب، أكثر منهم قيادات فاعلة في أحزاب ذات برامج وذات مفاهيم محددة وذات إسهام مؤثر في الصراع السياسي المعبر عن المصالح الحيوية لمختلف طبقات المجتمع وفئاته وطموحها المشروع إلى غد أفضل.
أليست مفارقة أن يكون الحزبيون الجديون المؤمنون بلبنان الوطن لا الكيان، وبالشعب لا الطوائف، قد حرموا على الدوام من الوصول إلى المجلس النيابي … مع الاشارة إلى أن هؤلاء هم “السياسيون” وهم من يملكون ما يقدمونه للناس، ولو نظرياً؟!
وهي ليست حكاية شعبية، فبين النواب والأقطاب من اصطنعت له الشعبية وجهزت وأفرغت في صناديق الاقتراع فإذا هو النجم الجماهيري في منطقة لم يعرفها ولم تعرفه ولا يملك ما يقدمه لها غير الدعاء… إن كان من أهل الصلاح!
إنها “السياسة” سياسة منع السياسيين من ممارسة العمل السياسي عبر المؤسسات السياسية الشرعية. إنها سياسة تجريد البرلمان من حقه في العمل السياسي، سياسة تعقيم البرلمان ضد السياسة.
وبهذا المعنى فلقد غدا “صاحب الفخامة” السياسي الأوحد في بلد اصطنعت كيانه السياسات الدولية والعربية، وليس لشعبه من حرفة أو هواية إلا السياسة، فمن لا يفهم في السياسة لا يصل إلى مصادر الرزق والوجاهة وتنغلق عليه قريته الشحيحة الخير والواطئة السقف والمحاصرة بالجبال الجرداء.
لقد هان “البرلمان” على أهله، ومنذ نعومة أظفاره، فاكتفوا منه باللقب والراتب واللوحة الزرقاء والمخصصات التي تغطي نفقات الوجاهة ومن ضمنها السائق والمرافق والمحروقات، ثم من بعد، أيتام الأسرة وأراملها إذا جاء – بعد عمر طويل – أجلهم الذي لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون أمن الضروري أن ندخل السكين، أكثر، في الجرح القديم، وأن نستذكر أن البرلمان كان دائماً أداة في يد الرئيس: يركبه على مزاجه، يستبقيه بقدر حاجته إليه، يصطنع عبره الحكومات الطيعة التي يريد، ثم يصرفه متى استغنى عنه؟!
من يستطيع أن يشرح ويفسر القواعد التي اعتمدت في زيادة أو إنقاص عدد النواب عبر المجالس المختلفة، من 44 إلى 55 ثم إلى 66 فإلى 77 وأخيراً.
من يستطيع أن يشرح لماذا وعلى أي أساس تم تعديل الدوائر الانتخابية وإعادة تقسيمها بحيث باتت لا تنجب إلا الأكثر طائفية والأغنى من بين المرشحين، ودائماً مع الحفاظ على دوائر لأصحاب الحظوة وللأقطاب أو بعضهم ممن لا يستغني عنهم فخامة الرئيس؟
كم مرة عدل مجلس النواب الدستور؟!
وهل عدله مرة إلا من أجل خدمة غرض للرئيس (كالتجديد) أو تلبية لرغبة أبداها فخامة الرئيس؟!
هل كان المجلس، مرة، قادراً على مواجهة الرئيس، أم أنه كان يواجه ولحسابه دائماً تلك الحكومات التي يرئسها بعض من خرج على إرادة صاحب الفخامة وحاول أن يكون صاحب دور في حكم البلاد؟!
أليس إن مجلس النواب الأول بعد الاستقلال ما زال حتى اليوم نموذجاً فذاً على تزوير الإرادة الشعبية لمجرد أن يتم التجديد لرئيس الجمهورية – بطل الاستقلال؟!
ألم يتراجع مجلس النواب عن عريضة أعدتها أكثرية الثلثين فيه لمجرد أن رئيس الجمهورية قد أظهر غضبه. والعياذ بالله، فإذا بالسادة النواب يلحسون تواقيعهم وينكرون مواقفهم بادعاء إنهم إنما كانوا مضللين؟!
هي لست ساعة للحساب ومن ثم العقاب، ولكنها ليست ولا يجوز أن تكون ساعة للمجاملة أو للمداهنة أو للانسياق وراء ذريعة الخوف إلى حيث تضيع البلاد ويضيع العباد.
فحين يتحصن النوابأو بعضهم خلف ذريعة الخوف (ممن ولماذا) للهرب من مسؤوليتهم في إقرار الاصلاح، والمطلوب هو الحد الأدنى منه فإنما يتخلون عن شعبهم وعن دورهم الطبيعي في محاولة وقف الحرب وفتح الباب للتسوية السياسية المرشحة لأن تتحول منطلقاً للسلام الوطني.
إن النواب مدعوون إلى استدراك ما قصروا فيه أو أجبنوا عن أدائه في الماضي،
إن البرلمانيين اللبنانيين مدعوون إلى إثبات جدارتهم بالثقة التي منحت لهم، برغم كل التجارب المريرة السابقة، واستحقاقهم لأن يدخلوا – مرة – التاريخ من الباب الصح بعد أن احترفوا دخوله من الباب الخطأ.
إنهم، إذا أقدموا، هم الأقوى،
أما إذا ترددوا وانساقوا وراء المناورات والتكتكات وأظهروا براعاتهم في “التشاطر” على بعضهم وعلى الناس، وهذه المرة على العرب مجتمعين، وعلى العالم بأسره، فلسوف يتسببون في اندثار لبنان بشعبه وأرضه ودولته والمؤسسات.
ألا يستطيعون أن يكونوا مرة، الأقوى، سيما وإن لا صاحب فخامة ولا من يستطيع إخافتهم وتهديدهم بحجب الرضى ومنع المغانم… وصولاً إلى التلويح بسيف الجل؟!
لقد كان “الأقطاب” وسائر النواب يقولون دائماً: مكنونا من التلاقي، نحن البرلمانيين اللبنانيين، وامنحونا عشر دقائق فقط فيكون اتفاقنا تاماً ومطلقاً ونخرج لبنان واللبنانيين من دوامة الحرب…
وكان هؤلاء، وكثيرون غيرهم من “الشطار” يقولون ولا يتعبون من تكرار القول: ليس بيننا خلاف ولا من يختلفون! كبروا عقلكم أتصدقون إن الأمر إصلاح للنظام؟ّ! لو كان كذلك لفرغنا منه قبل أن يرتد إلى واحدكم طرفه؟!
حسناً، ها هم الآن وجهاً لوجه في أفخم مكان تشهوا أن يكونو فيه: يقيمون في قصر، في مصيف لطيف المناخ، رخي النسمة نديها، يسهر على خدمتهم الأمراء والوزراء والكبراء، يسعى بينهم الطيبون من وسطاء الخير، يسهلون ما يعسر عليهم فهمه أو هضمه، ويذللون العقبات القائمة فعلاً أو المتوهمون، ويوفرون لهم ما طلبوا وما لم يطلبوا من الضمانات… فماذا تراهم بعد ينتظرون؟!
في الليل الصحراوي يحلو السمر ويمتد حبل المكاشفة والمصارحة والاعتراف الحميم، ويستذكر البرلمانيون لبنان الجميل الذي كان والذي يتمنون معاً أن يعود وأن يعودوا إليه مع العائدين.
فمتى تراهم يبدأون رحلة العودة إلى الدور، إلى المسؤولية، إلى السياسة إلى الوطن؟!
… طريق السلامة، هنا، عريض، عريض، وعند نهايته “المسرة” وعبره ترتفع اللافتات المشعة لقصور الأفراح،
فهل تراها حانت لحظة الفرح بعد دهر الحزن الطويل؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان