أخيراً، عادت القيادات في الجزيرة والخليج إلى الاعتراف ببعض حقائق الحياة، أي التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا السياسية.
وبغض النظر عن تقييم السياسات السابقة لهذه القيادات، والتي بلغت ذروتها هياجاً وتغرباً في قمة عمان، فإن الاعتراف بالخطا فضيلة، والرجوع عنه فضيلة أكبر.
وعلى امتداد الشهرين الماضيين، بعد عمان، صدرت عن هذه القيادات التي لم يتعود منها العالم إلا الصمت والتحرك في الظلام والابتعاد عن “المشاكل” والمسائل الشائكة كقضايا التحرر والتحرير والكفاح المسلح والحروب، مؤشرات ورسائل واضحة إلى من يعنيهم الأمر تفيد ما معناه: إن “الهوبرة” وصرخات الحرب التي أطلقوها في عمان إنما كانت تستهدف فتح باب الحوار لا أكثر، ولكن من موقع قوة…
ولعل قمة عمان كانت آخر مناسبة لإعلان الخليج “أمة تامة”!!
فمنذ قيام، بل إقامة، مجلس التعاون الخليجي، حرصت قيادة السعودية ومن معها من حكام الخليج، على التصرف وكأن تلك المنطقة من أرض العرب “جزيرة” معزولة عما حولها، لا هي على صلة به ولا لها علاقة بما يحدث من حولها، ولا تريد أن تؤثر فيه تجنباً لأن يؤثر فيها.
صار مجلس التعاون بديلاً عن جامعة الدول العربية،
وصارت لهذا المجلس خطط دفاعية ولجيوش المملكة والسلطنة والإمارات، مناورات مشتركة (برعاية أميركية دائماً) تحت اسم “درع الجزيرة”.
وبرغم الحذر والشكوك المتبادلة والريب المعلنة، فقد كانت تلك القيادات مسوقة الى تحول المؤسسات المتفرعة عن مجلس التعاون الى بدائل موازية للمؤسسات التي تتكون منها الجامعة العربية.
باختصار: وجد العرب الأغنياء في الحرب العراقية – الإيرانية فرصة ذهبية للخلاص من “أعبائهم” و”التزاماتهم” تجاه العرب الفقراء.
فمن “المصادفات” أن العرب الفقراء كانوا يحتشدون فيدول الصمود والمواجهة (مصر، فلسطين، سوريا، لبنان والأردن)، وكانوا يدفعون من أرواحهم ودمائهم وإمكاناتهم الاقتصادية المحدودة أعباء مواجهة الخطر الصهيوني ومشاريع توسعه وتمدده نحو مصادر الثروة في الأرض العربية،
وكان العرب الأغنياء يدفعون حفنة من الدولارات لأخوتهم البؤساء “كفارة” و”زكاة” أو حتى “جزية” ليبقوا في مأمن من شرور الحرب وويلاتها، ثم يدفعون وأكثر بكثير لأصحاب الحول والطول في واشنطن حتى يكبحوا جماح إسرائيل فلا تهاجمهم ولاتعكر عليهم صفو حياتهم وفرصة الاستمتاع بالخير المتدفق عليهم بعد طول حرمان.
بعد الحرب العراقية – الإيرانية، بأكلافها الباهظة، وأمدها المفتوح، ارتفعت في تلك المنطقة أصوات تقول: ونحن أيضاً دول مواجهة، بل إننا نواجه خطراً أفدح وأشرس من الخطر الإسرائيلي، فلماذا ندفع للعرب الفقراء الذين لا يقاتلون معنا ولا يقدمون لنا شيئاً، بل وبينهم من يكاد ينحاز الى “العدو الإيراني”؟!
شيئاً فشيئاً وجد الغني في هذه الذريعة السياسية الملفقة التمويه المطلوب، فتحولت المنطقة إلى عالم قائم بذاته. صارت الهوية “خليجية”، وصارت الهموم “خليجية”، وصارت الخطط، دفاعاً وهجوماً، خليجية، وصار التفكير بعملة خليجية، وبجواء سفر خليجي… بل وتمت عمليات قيصرية لاستنبات فن خليجي قائم بذاته، كنبت شيطاني منفصل كلية عما حوله وعما قبله.
وتمدد “الخليج” عبر العالم بهويته الجديدة، وكأنه شيء آخر غير “العرب”،
وتطاولت بعض إمارات الخليج، مستندة إلى غرور الثروة ونفاق الطامعين، فقررت – في غمضة عين – أن تصير دولة كبرى، وأن تدخل لعبة الكبار، ومن الباب العريض (كم ثمنه؟!).
ولبعض الوقت بدا وكأن الخطة ناجحة بشكل مذهل،
صارت الدول الكبرى تتنافس على حماية البواخر الضخمة التي تحمل نفط العرب الى العالم المتقدم،
وأضاع الغرور والطيش عقول الصغار، وظنوا إنهم بالفعل صاروا أسياد العالمن يطلبون فيكون لهم ما يريدون، ويأمرون فيطاعون، ويدفعون فيأتيهم الجبابر صاغرين، ويحاربون بالنيابة عنهم حتى… النصر،
لكن الوهم لم يعمر طويلاً، وأخذ يتهاوى شيئاً فشيئاً لتبقى حقائق الحياة، أي التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا السياسية، ولتفرض منطقها على الجميع.
فلا مجلس التعاون، الذي يشكو حتى الآن من فقر الدم بسبب سوء التغذية، تحول إلى رابطة جدية، ولا هو بالتحديد شكل بديلاً صالحاً عن الرابطة القومية الفعلية، التي تمثل الجامعة العربية حدها الأدنى.
ولقد كان ممكناً، وما زال ممكناً أن يكون مجلس التعاون إطاراً من أطر التنسيق بين أقطار لها مصالح مشتركة في حدود معينة وبالنسبة لموضوعات محددة، كالنفط،
ولكن الباس هذا المجلس لبوساً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً و… عجل في وأده، ومنعه من تحقيق الممكن والعملي مما يفيد أعضاء من الأخوة – الأعداء.
ولا الهوية الخليجية استطاعت أن تصمد لأول نسمة هواء هبت عليها، فإذا “الخليجيون” يرفعون عقيرتهم بنداء الاستغاثة طالبين العون من كل قادر: فمن لديه العسكر فليبعث بعسكره، ومن له قدرة على إقناع الإيرانيين فليتفضل مشكوراً لبذل مساعيه الحميدة…
هذا بغير أن تغلق الأبواب أمام سماسرة السلاح الذي اشترى منه “الخليج” ما لا طاقة له على استيعابه، ولا قدرة لأهله على تشغيله أو صيانته، وما لا نفع له – في آخر المطاف – إلا استنزاف مشتريه، لأن هؤلاء لن يقاتلوا، إذا ما جاءت ساعة القتال.
ويتندرون الآن في الخليج بحكايات عن القادة والمسؤولين وكبار المنتفعين ممن حزموا حقائبهم وأعدوا العدة كاملة للانتقال وراء أموالهم “المنقولة” التي تم توظيفها ومنذ أمد بعيد في اقطار أوروبا وأميركا الشمالية،
فلقد ولى الجيل المقاتل في الجزيرة والخليج، وصارت الحروب، سواء للتحرير أو للتوحيد، أو لأخذ السلطة من الذكريات،
المهم الآن أن تبقى الثورة،
فإذا جاءت لحظة الخيار بين السلطة والثروة فالثروة هي الأبقى وهي الأنفع ولتذهب السلطة ومن يأخذها إلى الجحيم.
برغم هذا كله، فمن المفيد أن يعود هؤلاء “الأخوة الأغنياء” إلى حقائق حياتهم، وأساساً، إلى طبيعة انتمائهم القومي،
من المفيد أن يدركوا أن أساطيل الحماية الأجنبية لا تحمي أحداً، بل هي أتت لحماية مصالح أصحابها، وها هي ترفع مراسيها لكي ترحل بعدما اطمأنت إلى أن تلك المصالح في أمان، حتى إشعار آخر، وإن تأمينها يكون بالتفاهم مع السوفياتي أولاً، ومع الإيراني ثانياً، ومع إسرائيل ثالثاً، ومع “العرب” مجتمعين إذا ما اجتمعوا، وليس مع “الخليجيين”، خصوصاً وإن الخليجيين أنفسهم غير متفقين في الرأي وفي السياسة،
فلقد أثبت حاكم شبه منسي كسلطان عمان أنه أبعد نظراً من حكام اشتهروا بالدهاء والبراعة والحذاقة والشطارة والمكر وإتقان لعبة الكبار، فلم يذهب معهم إلى الحرب الوهمية، وإنما سعى وما زال يسعى إلى السلام الممكن،
وليس مهماً أن يقال إن النصيحة كانت “بريطانية”، وإن من استمع إليها وعمل بها قد فاز، فالحكم على النتائج،
كذلك أثبت حاكم خليجي آخر اشتهر بحسن لاطوية وبالعفوية وبأخذ المسائل ببساطتها، هو الشيد زايد بن سلطان، إنه أكثر وعياً بحقائق الحياة، وحقائق منطقته، من حكام دفعوا الحقبة السابقة بطابعهم وأوهمهم “حلفاؤهم” الأميركيون إنهم من صناع التقدم الإنساني وحضارة القرن العشرين”.
وليس مهماً، هنا، أن يقال أن الذي ظل “على حجمه” لم ينفخ نفسه ولم يسمح للآخرين بنفخ، لم يخترع الأوهام لنفسه، ولا قبل أن يوهم بأنه مؤهل للعب دور الدولة الكبرى، هو الذي ربح وخسر المتباهون بضخامة الهراوة في أيدي “أصدقائهم” المخلصي،
المهم أن يعود الجميع إلى حقائق حياتهم،
فالسعودية، مثلها مثل عمان وقطر والبحرين والكويت ودولة الإمارات، مثلها مثل سوريا والعراق ولبنان وفلسطين ومصر وليبيا والمغرب والجزائر والسودان، كلها أجزاء من أمة واحدة، لا يمكن أن ينتفع قطر منها بما يصيب بالضرر أقطاراً أخرى.
والسعودية دولة غنية جداً بمواردها، لكنها فقيرة جداً بصداقاتها وبتحالفاتها وبسياساتها… فالعالم عندها نصفان: نصف تعتبره ضدها فتقف ضده، ونصف تعتبر نفسها منه فتلتحق به التحاقاً وتدفع ثمن “الانتساب” غليه معظم ثروتها دون أن يقر لها بشرعية هذا الانتساب!
أما الصداقات فلا مجال للحديث عنها، لأن الصداقة مستحيلة – في ما يبدو – بين غني وفقير.
أما الكويت فهي تعتبر إن على الجميع أن يكونوا معها، يقبلون بما تقبله ويرفضون ما ترفضه، فالأغنى هو الأعلمز
ثم إنها تنظر الى نفسها، والى العالم ، بعين التاجر الشاطر فترى إن كل شيء قابل للشراءن وإن المساوم البارع هو الذي يحقق النتائج الباهرة ويربح من البائع والشاري في آن، بل هو قد يشتري بمال غيره ويكون له صيت الذكاء الخارق إضافة إلى صيت الغنى الفاحش والغنى ستار العيوب.
إن حقائق الحياة تقول:
*إن عربياً، يتنصل من فلسطين ومن واجبه القومي في مواجهة الخطر الصهيوني لا يمكن أن يربح حرباً أخرى في أي مكان وزمان،
ولقد آن الأوان لأن يسحب من التداول، ونهائياً، منطق كذلك الذي تفوه به مسؤول شبه خليجي في قمة عمان، ومفاده: إن إسرائيل ليست خطراً ذا شأن، فكلها 3 – 4 ملايين نسمة، أما إيران الخمسين مليوناً فهي الخطر والحرب معها وليس مع غيرها.
*إن الأساطيل الأميركية والغربية، والأجنبية عموماً، لا تحمي أحداً… فهي لم تحم بشير الجميل في لبنان، ولا هي حمت الهيمنة الكتائبية، ولا هي استطاعت الصمود في مواجهة الرفض الشعبي، وقد انسحبت في غمضة عين، و”نسي” المسؤولون عنها أن ينبهوا “أصدقاؤهم” في لبنان، في الوقت المناسب، لكي ينسحبوا معها وعلى متنها، فتركوهم لمواجهة مصيرهم البائس بعد الرحيل!
*إن العروبة انتماء، والكوفية ليست باروكة شعر مستعارة، تلبس عند الضرورة، والانتماء القومي يتأكد عبر المخاطر وعبر مواجهتها، فلا يكون المرء عربياً، في سنوات الرخاء والعز ثم يتنصل من هويته ويكاد يبدل لون بشرته لو استطاع عندما تضطره الظروف لحماية أرضه وحقه فيها، وبالتالي حقه في ثرواتها.
*إن النفط ليس هوية ولا يمكن أن يكون.
ولا يستحق النفط، بأي حال، أن يضحى بالبلاد من أجله،
ثم إن النفط مصدر للخطر، إذا لم يؤكد صاحبه العربي التصاقه بمسؤولياته القومية… فقوة العربي، على مر التاريخ، من قوة قضيته العادلة، وليس من حجم تراثه، والمعارك المنتصرة جميعاً خاضها الفقراء، وانتصر فيها الفقراء.
ومرة واحدة كان للنفط العربي دوره في المعركة، وشهد له الجميع بشرف هذا الدور وخطورته، في حرب 1973… ولقد صار الملك الراحل فيصل ملكاً عربياً، نتيجة لذلك لدور، واعتبره العرب شهيدهم حين قضى بمؤامرة خسيسة، مباشرة بعدما وظف هذا النفط كسلاح فعال في خدمة أهداف نضال أمته.
*إن عرباً هاربين من التزامهم القومي لا يصيرون قوة مهما زاد عديدهم.
ولو أن حسني مبارك يأخذ مصر إلى عرب الجزيرة والخليج، أو يذهب ليجيء بهم إلى مصر من أجل أن يقاتلوا في فلسطين، لاختلف الأمر اختلافاً أساسياً ولصارت مثل هذه الخطوة انقلاباً في تاريخ العالم،
فالكل هارب من “حربه” ليوهم الناس بأنه مشغول بحرب أخرى غير قائمة ولا يريد لها أحد أن تقوم.
والفرصة متاحة الآن لقيادات الجزيرة والخليج لكي يستعيدوا هويتهم العربية،
والباب هو هو، لم يتغير ولن يتغير: فلسطين،
ومع فلسطين، الآن، لبنان، الذي هو بالمعنى القومي بعض فلسطين، إذ أن أزمته هي – في جوهرها – أحد تجليات الصراع العربي – الإسرائيلي في لحظة الهزيمة العربية.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان