أهم ما في المفاوضات بين “العرب”، ولو تعددت وفودهم وتمايزت مواقفهم، وبين “عدوهم” الإسرائيلي، هي المفاوضات ذاتها.
هي مهمة بذاتها كحد فاصل بين تاريخين لن يكون ثانيهما تكراراً للأول، بأي حال،
وهي مهمة بالتفاصيل أهميتها بالجوهر: الرعاية، الزمان، المكان، الوفود، الأسلوب.
ففي لحظات صنع التاريخ يصعب فصل الشكل عن المضمون فكيف إذا اتصل الأمر بأنهاء “تاريخ” بكل معالمه وقيمه وشخوصه ولغته والانفصام الفاضح فيه بين الشكل الخارجي، المعد للاستهلاك الداخلي، والمضمون المعلن للآخر والمضمر بالنسبة للذات.
“لقد باتت المفاوضات جزءاً من سياسة المنطقة”، تقول الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية مارغريت تاتويلر،
هذا صحيح، فعلى امتداد سنة تقريباً صرف المسؤولون العرب المعنيون، وكذلك المسؤولون في “إسرائيل”، أكثر من نصف وقتهم على هذا الأمر المصيري الذي سيتقرر في ضوئه مستقبل المنطقة برمتها، ببشرها ومواردها، بأنظمتها وسياساتها الداخلية منها والخارجيةن وصولاً إلى البرامج المقررة في المدارس الابتدائية.
وعلى امتداد ستين ساعة تحدث “الإسرائيليون” إلى اللبنانيينن مثلاً، وتحدث هؤلاء إليهم… تشاتموا واحتدم النقاش حيناً، واضطرب حيناً آخر، ولعله سف في حالات أخرى، ولعله كاد ينقطع في لحظات معينة.
لعب كل طرف لعبة الألفاظ ولعبة الوقت وتشاطر وناور وتكتك وحاول الهرب من الموضوع الأصلي وآثار مسائل جانبية، وجرب أن يكسب بالنقاط من دون أن يخسر أي موقع،
فاوض في واشنطن (وقبلها في مدريد) وكأنه يؤدي امتحاناً في بيروت، وأيضاُ في دمشق وفي عمان وفي بغداد وفي جدة وفي القاهرة والخرطوم وطرابلس وتونس والجزائر والرباط ونواق الشوط… مستحضراً دائماً فلسطين وأهلها وقدسها الشريف،
لكن استحضار القضية كلها والعواصم جميعاً كان يضفي على “المفاوضات” المزيد من الجدية، من خلال تعاظم الشعور بالمسؤولية التاريخية عند المفاوض “اللبناني” ماذا سيقولون عني غداً؟ لا بد سأحاسب على ما فعلت فلأدقق في كل كلمة وكل حرف وكل تصرف، بما في ذلك “توظيف” مرض السكري لاستراحة قصيرة يتم خلالها التقاط الأنفاس واستذكار الصورة بكليتها بدلاً من التوغل بعيداً في تفصيل ذي مزالق خطرة!
لم يعد للمنطقة، بدولها المختلفة، سياسة خارج دائرة تأثير المفاوضات،
ألا يربط اللبناني العادي بين الارتفاع الجنوني (والطارئ) في سعر صرف الدولار وبين سياق المفاوضات، باعتبار ذلك جزءاً من عملية الضغط السياسي التس تستهدف ربط الانفراج الجدي بوضع حد للصراع العربي – الإسرائيلي، وتبعات لبنان الضعيف منه؟!
ألا يربط العربي العادي بين كلفة حياته اليومية وبين هذا الوضع القائم: حيث العرب أضعف من أن يحاربوا وإسرائيل أقوى من أن “تصالحهم” بشروط مقبولة؟
طبعاً المفاوضات نتيجة، فما كان ممكناً الوصول إلى الطاولة لولا التسليم باستحالة أي حل خارجها أو من دونها،
لكن النتيجة مرشحة لأن تصير سبباً، و”الراعي” الأميركي يتحول تدريجياً على “مروض”: فمن أجل إنجاح المفاوضات لا بد من تعديل هنا أو تغيير هناك! ولا بد من الاستمرار بكل ما تفرضه موجبات تأمينه!
لكن العكس مرفوض، لاسيما بالنسبة للطرف الإسرائيلي (المستفيد): أي ممنوع “توظيف” المفاوضات ذاتها في انتخابات الكنيست، لأن ذلك لا يتناسب مع الغرض الأميركي المتوخى منها.
كالعادة: الأقوى هو الأقدر على التوظيف.
الإسرائيلي أقوى من العربي، والأميركي أقوى من الإسرائيلي، وبين التوظيف الأول، ولو محدوداً، والتوظيف الثاني يبدو “العربي” في أبأس حالاته إطلاقاً، لاسيما وإنه ممنوع من أن يتوحد ويكون طرفاً بل عليه أن يكون أطرافاً وأن يلتزم بهذا الأمر الصارم.
والأميركي يوظف التناقضات الشخصية و”السياسية” في إسرائيل، وهي في هذا المجال مهمة لكنها محدودة.
أما في المجال العربي فهي بلا حدود ومن عناوينها: توظيف الخلافات العربية، وما أكثرها عموماً وما أعمقها في بعض الحالات، لإضعاف “الأطرافط العربية المفاوضة!
لقد جاء بدول الجزيرة والخليج إلى الطاولة، مع أن لا مكان لهم مبدئياً إليها، وكذلك دول المغرب، ومنع الغياب، إلا من “عاقبه” بتغييبه كعراق صدام حسين،
ثم إنه أخذ الأطراف العربية البعيدة جغرافياً عن فلسطين إلى المفاوضات المتعددة الأطراف ليضغط بها على “دول الطوق”، أو ما تبقى منها، ولوح لبعض الفلسطينيين مستثنياً البعض الآخر ليزيد من الشقاق وبالتالي من العجز عن القرار،
وفي حين كان “العرب” يتابعون بسعادة بالغة “الحرب” الأميركية – الإسرائيلية ومحورها ضمانات القروض (عشرة مليارات دولار) للتوسع في الاستيطان أخرج الأميركي من جيبه، وعلى طريقة “الحاوي”، أو المناور المتمكن والمطمئن إلى قوته (العسكرية) حكاية “طائرة لوكربي” ولعبها بمنتهى البراعة والقسوة فارضاً على العرب – هذه المرة – أن يصوتوا بالإجماع ضد ذاتها، وأن يرجموا أنفسهم بأنفسهم وان يخسروا البقية الباقية من تضامنهم ومن شعورهم بالكرامة.
ومؤكد أن ليس بين العرب من يحسد هاته الكوكبة من الدبلوماسيين الذين يجلسون الآن في واشنطن، بالذات، ليواجهوا الإسرائيلي المتعنت، ورأس أخيهم الليبي “معلق فوق ليعلمهم الذوق”.
بين الجولة والثانية يستخدم “المروض” عصا أغلظ من السابقة وكرابيج أطول من الأولى، ويستخرج من جعبته الحافلة بكل غريب وعجيب ما يراه مفيداً لإضعاف الأطراف المتفاوضة، كل أمام الآخر، والكل أمامه،
وبهذا تصير المفاوضات فعلاً “جزءاً من سياسة المنطقفة”،
ولكن، ترى أي سياسة وأي منطقة؟!
هنا بالضبط يتداخل السبب والنتيجة وتتوالد أسئلة لن يستطيع الإجابة عليها هؤلاء الذين ذهبوا لملء الوقت بالكلام “المفيد” حتى لا يكون ثمة وقت ضائع، وحتى لا تكون أمام أي طرف فرصة لأن يصنع تاريخه بنفسه.
… مع ذلك فالتاريخ ليس مرتزقاً يعمل بالأجر (أو بالسخرة) لدى “السيد” الأميركي، وليس ضرورياً أن يتحرك بالتوقيت الأميركي.
والأهم أن تبقى المفاوضات محطة داخل التاريخ الواحد وليس حداً فاصلاً بين تاريخين متناقضين لمنطقتين تنكر إحداهما الأخرى حتى ليغدو الأهالي أشتاتاً فوق أرضهم وداخل جلودهم ذاتها.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان